ما عناية المسلمين بدومة الجندل كل هذه العناية؟ وما حرصهم على الاستيلاء عليها كل هذا الحرص؟! لقد رأيتهم على عهد الرسول تتجه أنظارهم إليها، ثم يحالفونها ويضمونها إليهم، وها هم أولاء في عهد أبي بكر يقضون سنة أمام حصونها، ثم لا ينفكون عنها حتى تدين لهم وتعود إلى سلطانهم، ولعلك عرفت الجواب من خلال هذا القصص؛ فدومة كانت تقع على رأس الطريق الذي يؤدي إلى الحيرة وإلى العراق، وعلى أبواب وادي سرحان الذي يؤدي إلى الشام، فطبيعي أن تنال من عناية رسول الله ما نالت حين كان أكبر همه إلى تأمين الحدود ما بين الشام وشبه الجزيرة وطبيعي أن تنال مثل هذه العناية من أبي بكر وجنوده تقاتل بالعراق، تقف على تخوم الشام، وتلك هي العلة في أن عياضا لم يبرحها على طول ما أقام أمامها، وفي أن خالدا خف إليها أول ما استشير في الوسيلة للتغلب عليها، ولو أن دومة لم تذعن للمسلمين ولم تخضع لسلطانهم لبقي أمرهم في العراق تحت رحمة المقادير، ولما استطاعوا فتح الشام.
ولنقف الآن هنيهة مع خالد بدومة نسأله: ما سر هذه الموهبة التي جعلت النصر طوع يده، بل جسمت النصر في شخصه وجعلته مثاله، فلو أنه عاش بين اليونان الأقدمين لأسموا إله النصر خالدا؟! أتراه يجيبنا؟ ما أظن! وهو لا يضن بالجواب استكبارا، بل لأنه لا يعرف هذا السر أكثر مما نعرف، فهذا السر يتصل بالروح، والروح من أمر ربي، وخالد مثلنا لم يؤت من العلم إلا قليلا، ومتى عرف صاحب موهبة مكانها من نفسه ومصدر نبعها من روحه! إنما هي فيض من فضل الله يتجلى به على من يشاء من عباده، فإذا هذا خالد بن الوليد، وذلك عمر بن الخطاب، وغيرهما ابن سينا، وابن رشد، ورفايل، وبتهوفن، وشكسبير، والمعري، وشوقي، وهذا الفيض الإلهي الذي يتصل بروح عبد من خلق الله هو الذي يسمو به وبالأمة التي ينشأ فيها إلى حيث يريد الله، فإذا التقت تيارات الفيض في زمن واحد وفي أمة واحدة ما التقت في أبي بكر وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد ومن عاصرهم وعمل معهم، سمت في فترة وجيرة من الزمن إلى حيث سمت الأمة الإسلامية في سنوات معدودة، فانتقلت في أقل من جيل من بداوة شبه الجزيرة إلى هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف المتغلغلة بسلطانها الروحي في أعماق النفوس، والتي حملت عبء الحضارة عن العالم كله عشرة قرون اتباعا حتى احتملته أوربا ولا تزال تنهض بعبئه إلى اليوم.
والناس يشعرون بسلطان هذه المواهب فتعنو لها وجوههم، فإذا ارتحل عنهم صاحبها خلا لهم الجو فرفعوا رءوسهم وحاولوا الظفر بحريتهم، وكذلك صنع أهل الحيرة وغيرهم من أهل العراق في غيبة خالد بدومة، ظن الأعاجم ومن ناصرهم من العرب أن الحظ موات والفرصة سانحة، وخيل إلى بني تغلب أن الثأر لمقتل عقة قد حان، ولم يكن في طاقة القعقاع إلا أن يحمي ما كسب المسلمون فلا يدع ما وراء حدودهم يتقدم إلى غزوهم، وبلغت خالدا هذه الأنباء فلم يطق البقاء بدومة بل خرج وعلى مقدمته الأقرع بن حابس ومعه عياض بن غنم، وما لبث حين بلغ الحيرة أن جعل عليها عياضا، ووجه القعقاع إلى الحصيد حيث تواعد الثائرون من العرب والفرس، أما هو فأقسم ليبغتن في دارها.
ولقد كفى أن علم أهل العراق بمقدمه فأسقط في أيديهم وتنكر وجه الحظ لهم، وخاب ما ظنوا أن هؤلاء الغزاة من شبه الجزيرة سيرحلون عنهم كما رحل من قبل أمثالهم، وبدا ذلك كله واضحا في وجوههم حين خرج القعقاع إلى استقبال خالد بظاهر الحيرة، فقد وقف في طرقاتها رجال من أهلها يرون جيش المسلمين يمر بهم فيقولون لأصحابهم إذا رأوهم: مروا بنا فهذا فرح الشر.
وسار القعقاع إلى حصيد وقد أمده خالد من روحه بقوة على قوته، فلم يلبث له العجم بل قتل قائدهم، وفر جيشهم، وغنم المسلمون ما شاء الله أن يغنموا، وخيل إلى الفارين أنهم يستطيعون التحصن ببلدة الخنافس مع من بها من العجم، لكن قائدها فر أول ما سمع بمقدم جيش المسلمين، فلم يلق هذا الجيش من يحاربه، وانتهى خبر ذلك كله إلى خالد، فكتب إلى قواده فواعدهم ليلة وساعة يجتمعون فيها ببلدة المصيح منازل هذيل الثائرة بهم، واجتمعوا ليلة موعدهم وأغاروا على هذه القبائل وهم نائمون، فملأوا الفضاء بقتلاهم، حتى كأنهم غنم مصرعة.
وقتل بالمضيح رجلان من المسلمين معهما من أبي بكر كتاب بإسلامهما فلما بلغ مقتلهما أبا بكر وداهما، ولكن عمر أخذها على خالد وأضافها إلى قتل مالك بن نويرة، وكما دافع الصديق عن ابن الوليد في الأولى دافع عنه في هذه بقوله عن الرجلين: «كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب».
وآن لخالد بعد المضيح أن تبر يمينه ليبغتن تغلب في دارها، لذلك تقدم إلى قائديه القعقاع وأبي ليلى أن يرتحلا أمامه، وواعدهما الغارة على التغلبيين في ليلة عينها، واجتمع القواد الثلاثة من ثلاثة أوجه فجردوا السيوف، فلم يفلت من جيش بني تغلب مخبر، وأخذ خالد السبي والمغانم، فبعث بالخمس إلى أبي بكر مع النعمان بن عوف الشيباني، وقد اشترى علي بن أبي طالب من السبي صابحة بنت ربيعة بن بجير التغلبي فولدت له عمر ورقية.
ذاعت أنباء خالد وشنه الغارة على القبائل ليلا في منازلها، وأخذه النساء والبنات سبيات منها، وقسمته المغانم والسبي بين عسكره، وعجز القبائل جميعا عن مقاومته، ففت ذلك في أعضاد رجال البادية بالعراق، فألقوا سلاحهم وطلبوا الأمان، وجعل خالد يسير شمالا على شاطئ الفرات وفيما حوله، فلا يلقى إلا الإذعان له والإيمان بعبقريته، فلما بلغ الفراض، وهي تخوم العراق والشام، نزلها بجيشه وأفطر بها رمضان في تلك السفرة التي اتصلت له فيها الغزوات والأيام ونظمت نظما.
ولننزل مع خالد الفراض نستجم قليلا، فالفراض هذا أدنى إلى شمال العراق وشمال الشام، فلو أن عياض بن غنم ساعفه الحظ فأخضع دومة أول ما ذهب إليها لما كان هذا الشمال الذي بلغه خالد هو الذي عناه أبو بكر حين أمر عياضا أن ينزل العراق من شمال، إنما كان مقصد الصديق إلى شمال الحيرة، أما أن تبلغ جنوده تخوم الشام من أعلاه فتلك معجزة لم يفكر الخليفة فيها، وهي معجزة لم يؤتها إلا الذي عقمت النساء أن يلدن مثله، وأية معجزة كمواجهة الروم من تخوم فارس! وأية جرأة كمقام خالد بالفراض شهرا كاملا وليس بينه وبين جيوش الروم المعسكرة بالشام غير مجرى الفرات! أولا يخشى أن تضيق هذه الجيوش صبرا بمرآه فتنازله فيتضاعف بذلك عدوه؟ وأي عدو! فارس من الشرق، والروم من الغرب، وقبائل البدو الحاقدة المحنقة من كل جانب، أليس خيرا له وقد قضى على ثورة العراق أن ينسحب إلى الحيرة وأن يقيم بها فيوطد ملك المسلمين فيها!!
كلا! لئن فعل ليكونن السياسي الذي يريد أن يجعل الزمن من جنده، والصبر من أعوانه، وخالد ضيق صدرا بالزمن وأكثر ازدراء للصبر وأشد مقتا للسياسة المحاولة المطالة من أن يمر شيء من ذلك بخاطره، وما الفرس وما الروم وما رجال البادية وما جموعهم وإن زخرت أمام نظرته القوية الصارمة التي تلقي الرعب في القلوب فتهز الميادين وتبطش بالدول أسرع البطش! إنه مقيم ها هنا بالفراض، وللروم رأيهم إن شاءوا مصاولته.
Halaman tidak diketahui