ولم يكن يعدل حزن المسلمين بمكة والمدينة على هؤلاء القتلى إلا فرحهم بما آتاهم الله من النصر، عاد عبد الله بن عمر بن الخطاب بعد أن أبلى في اليمامة أحسن البلاء، فلما لقيه أبوه قال له: «ما جاء بك وقد هلك زيد! ألا واريت وجهك عني!» وأجاب عبد الله: «قد حرصت على ذلك أن يكون، ولكن نفسي تأخرت فأكرمه الله بالشهادة.» وفي رواية أنه قال: «سأل الله الشهادة فأعطيها، وجهدت أن تساق إلي فلم أعطها.» وليس حزن عمر لمقتل أخيه زيد إلا مثلا لما عم مكة والمدينة من أسى على الأبطال الذين استشهدوا في قتال مسيلمة.
أفحزن خالد بن الوليد كما حزنوا؟ أفأزعجه منظر القتلى وروعه مسيل الدماء؟! كلا! ولو أن ذلك كان لما جاز له يوما أن يتولى القيادة، وأن يكون فاتح العراق والشام، وموطد الأساس الأول للإمبراطورية الإسلامية، وأين القائد القادر الذي لا يهتز طربا حين يرى الألوف من الأعداء يخرون صرعى أمام جيوشه! لم يرع خالد إذن ولم ينزعج؛ بل إنه لم يلبث حين اطمأن إلى النصر وأتم الصلح وتسلم زمام الأمر أن دعا مجاعة إليه وقال له: «زوجني ابنتك.» وكان مجاعة قد سمع بحديث ليلى أم تميم وباستدعاء أبي بكر خالدا وتعنيفه إياه على ما فعل مما يخالف تقاليد العرب، فقال: «مهلا! إنك قاطع ظهري وظهرك معي عند صاحبك.» ولم يعجب خالدا هذا الكلام فلم يعره أية عناية، بل حدق إلى الرجل وقال: «أيها الرجل زوجني.» ومن ذا يستطيع أن يعصي له إثر نصره في اليمامة أمرا! وزوجه مجاعة ابنته، فدخل بها في بيت أبيها، ثم جعل لها فسطاطا يجاور فسطاط أم تميم.
وبلغ أبا بكر ما صنع خالد، فتولته الدهشة أول ما عرفه، ثم استحالت الدهشة غضبا، فاستحال الغضب ثورة، لقد كان كل دفاعه عنه في حادث أم تميم أنه لم يقتل زوجها ليتزوجها، وأنه إن يكن أخطأ فإنما خطؤه أنه خالف تقاليد العرب وصنع ما يعيبونه من مثل هذا التزوج والدماء تقطر والمآتم قائمة، فكيف به يكرر فعلته في اليمامة وقد قتل بها من المسلمين مائتان وألف، ولم يكن قتل منهم أحد في حادث مالك بن نويرة! لذلك لم يملك أبو بكر وهو الحليم غضبه، بل دفعته ثورته فكتب إليه كتابا «يقطر بالدم» على حد تعبير الطبري، جاء فيه: «لعمري يا بن أم خالد إنك لفارغ! تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجفف بعد!» وتناول خالد الكتاب ونظر فيه فتألم لغضب أبي بكر وهز رأسه وجعل يقول: هذا عمل الأعيسر. يعني عمر بن الخطاب، لكن الأمر لم يجاوز الأسف لغضب أبي بكر من جانب خالد، ولم يجاوز هذه الثورة على خالد وهذا الكتاب إليه من جانب أبي بكر.
ومن تكون بنت مجاعة في أعياد النصر التي يجب أن تقام لخالد؟! إنها لن تزيد على قربان يطرح على قدمي هذا العبقري الفاتح الذي روى أرض اليمامة بالدماء لعلها تطهر من رجسها، بل إنها لن تزيد على جارية من الجواري اللائي يضربن بالدفوف في هذه الأعياد ويتغنين مطربات، أن عاد مهد الإسلام كاملا إلى حمى الإسلام. لكن تبارك اسمك اللهم، إن الإسلام لا يعرف هذه الأعياد، وإنما يعرف أن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء، وقد آتاه خالدا، فأعز به دينه الحق، ومحق به الردة والمرتدين.
محا خالد الردة والمرتدين بغزوة اليمامة ومحقهم، بذلك آن لبلاد العرب أن تطمئن وتدين بدين الله، فأما ما بقي من أنباء حروب الردة بمهرة وعمان واليمن مما تلا اليمامة فلم يكن في مثل خطرها، من ثم آن لأبي بكر بعد اليمامة أن تسكن نفسه، وآن لخالد بعدها أن يستريح.
وتحول خالد إلى واد من أودية اليمامة يقال له الوبر، وكان له به منزل جمع فيه بنت مجاعة وأم تميم.
أفطال هناك مقامه وكملت هناك راحته؟ ذلك شأن لم تحدثنا به كتب التاريخ، لكن سياسة أبي بكر وسياسة الإسلام كانت لا تزال في حاجة إلى سيف خالد، وسنلقاه لذلك عما قريب، فإلى الملتقى عبقري الحرب وسيف الله! إلى الملتقى على شواطئ الفرات!
الفصل العاشر
بقية حروب الردة
البحرين، عمان ومهرة ، اليمن، كندة وحضرموت
Halaman tidak diketahui