لم يجد خالد بالبطاح أحدا، فبث الجنود وأمرهم أن يأتوه بكل من لم يجب داعية الإسلام، فإن امتنع فليقتلوه، وكانت وصية أبي بكر أن يؤذن جند المسلمين إذا نزلوا منزلا، فإن أذن القوم كفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا قتلوا منهم ونهبوهم، فإن أجابوا بعد ذلك إلى داعية الإسلام سألوهم عن الزكاة، فإن أقروا قبلوا منهم، وإن أبوا قاتلوهم.
جاء الجند بمالك بن نويرة في نفر من بني يربوع إلى خالد، وكان المنطق يقضي بعد الذي رأيت بأنه إن أقر مالك وأصحابه بالإسلام، أن يعاملهم خالد معاملة من تاب وأناب، لكن الذي حدث أن خالدا أمر بمالك بن نويرة فقتل، وأن هذا القتل أثار بالمدينة ثائرة ظلت زمنا قبل أن تهدأ، وأنه كان ذا أثر في تصرف عمر بن الخطاب مع خالد بن الوليد بعد أن ولي الخلاقة، لهذا تفصل الروايات مقتل مالك بن نويرة في شيء من الإسهاب وتختلف فيه.
قيل: إن رؤساء الجند الذين جاءوا بمالك ومن معه اختلفوا فيما بينهم: أأقر مالك ومن معه بالإسلام وأجابوا داعية الأذان، أم أنكروا وتنكروا؟ روى الطبري عن ابن قتادة الأنصاري، وكان من رؤساء هذا الجند، أنه «كان يحدث أنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل فأخذ القوم السلاح، فقلنا: إنا المسلمون. قالوا: ونحن المسلمون. فقلنا: ما بال السلاح معكم؟! قالوا لنا: فما بال السلاح معكم؟ فقلنا: فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح، فوضعوا السلاح ثم صلينا وصلوا.»
إلى هنا تتفق الروايات، ومن هنا يبدأ اختلافها، قال أبو قتادة: إن القوم أقروا بالزكاة وإيتائها، وقال غيره: بل أنكروها وأصروا على منعها، ماذا يصنع خالد إزاء هذا الاختلاف بين شهود العيان، وكيف يقضي فيه؟
تجري رواية بأنه أمر بحبس مالك وأصحابه حتى ينظر في أمرهم، وحبسوا في ليلة باردة جعلت تزداد بتقدم الليل بردا، وأخذت خالدا الشفقة بالقوم فأمر فنادى: دافئوا أسراكم، وكانت هذه العبارة في لغة كنانة معناها القتل، وكان الحراس من بني كنانة، فما لبثوا حين سمعوها أن ظنوا أن خالدا أراد قتلهم فقتلوهم، وسمع خالد الضجة فخرج، وقد فرغوا منهم، فقال: إذا أراد الله أمرا أصابه.
وتجري رواية ثانية بأن خالدا دعا إليه مالكا يناظره ليعرف أي الشهادتين حق: الشهادة بإسلامه، أم الشهادة بإصراره على الردة أو على منع الزكاة، وفيما هما يتناظران راجع مالك خالدا وقال: «ما إخال صاحبكم إلا وقد كان يقول كذا وكذا.» قال خالد: «أوما تعده لك صاحبا؟!» ثم قدمه فضرب عنقه وأعناق أصحابه.
ويقول أبو الفرج في الأغاني تفسيرا لهذا الحوار بين خالد ومالك ما نصه: «قال ابن سلام: من لا يعذر خالدا يقول إن مالكا قال لخالد: أوبهذا أمرك صاحبك - يعني النبي
صلى الله عليه وسلم - إنه أراد بهذه الفروسية، ومن يعذر خالدا يقول: إنه أراد انتفاء أمر النبوة، ويحتج بقول مالك:
وقلت خذوا أموالكم غير خائف
ولا ناظر فيما يجيء من الغد
Halaman tidak diketahui