ويزيد رأينا هذا تأييدا ما كان من بقاء مكة والطائف على الإسلام، صحيح أن أهل اليمن بدأ فيهم الإسلام واطمأن إلى سلطان الحاكم منذ دان بازان بدين الحق، وكان ذلك قبل أن يطمئن الإسلام إلى سلطان الحاكم بمكة والطائف، لكن قيام رسول الله بمكة سنوات الدعوة الأولى، وهي تزيد على عشر، واتصاله بالطائف وأهلها أثناء ذلك، ترك من الأثر الديني في نفوس المكيين والثقفيين ما لم يتركه إسلام بازان والفرس المحيطين به في اليمن، وتعاليم رسول الله كانت أبقى أثرا في مكة والطائف، حتى مع ثورتهما عليه، من تعاليم معاذ بن جبل باليمن وإن تمتع من حماية بازان بما تمتع به.
الأمر الثالث الذي نستخلصه، أن فتنة اليمن شجعت اليمامة وشجعت بني أسد على القيام بفتنتهم إثر وفاة النبي، فقد كان طليحة ومسيلمة يخشيان قوة المسلمين ويريان أن لا قبل لهما بمقاومتها، ولذلك لم يثورا بها ولم يخرجا عليها، فلما اجترأ الأسود على رفع لواء العصيان ولقي من النجاح ما لقي وأثار مخاوف المسلمين، امتدت عدوى الجرأة منه إلى طليحة وإلى مسيلمة، ثم زادها جرأة أن اختار النبي الرفيق الأعلى، ولو أن الأسود لم يقم قومته ولم يعلن فتنته لبقي الآخران على استحياء في إعلان فتنتهما، ولما جرؤ واحد منهما على مواجهة سلطان المسلمين.
ولم يقض موت الأسود على أسباب الفتنة التي كانت تتلظى يومئذ في أنحاء شبه الجزيرة، بل بقيت أسباب هذه الفتنة تضطرم ويزداد اضطرامها حتى اندلعت وفاة الرسول.
ويعلل بعض المستشرقين هذه الظاهرة في بلاد العرب لذلك العهد بما كان بين أهلها من تباين في نوع الحياة قل أن يجد الإنسان له في غير هذه البلاد نظيرا، وبما أدى هذا التباين إليه على حقب التاريخ من خصومات لم تهدأ، فحياة الحضر وحياة البدو تتجاوران في هذا المحيط تجاورا عجيبا، وبين البداوة والحضارة من التباين ما يجعل الوحدة القومية لبلاد ذلك شأنها أمرا غير ميسور، ثم إن حياة البداوة تجعل الإذعان لحاكم على النحو الذي يفهمه أهل الحضر مستحيلا أو يشبه المستحيل، فالبدوي لا يعدل باستقلاله الفردي شيئا، والقبيلة البادية ترى في استقلالها حياتها، وترى كل تحيف من هذا الاستقلال عدوانا عليها لا بد من دفعه، وقد كان هذا وما يتصل به سبب الخصومة التي تأصلت على الزمان بين اليمن وأهل الشمال.
والمستشرقون الذين يبدون هذا الرأي يذهبون إلى أن هذا التباين في طباع أهل البادية وأهل الحضر، وما جر إليه من خصومة بين الشمال والجنوب، كان له أثر بالغ في اضطراب العرب قبيل وفاة النبي وفي السنة الأولى من خلافة أبي بكر، فالإسلام دين توحيد في العقيدة، وبذلك قضى على عبادة الأصنام، فامتد الإيمان بالله الواحد الأحد إلى أنحاء بلاد العرب جميعا، أولا يخشى العرب أن يمتد الأمر من وحدة الإيمان بالله إلى وحدة سياسية تجني على استقلال أهل البادية وتثير الخصومات القديمة؟! ذلك ما دار بخواطرهم فيما يرى هؤلاء المستشرقون، ذلك ما أدى إلى انتقاض اليمن وغير اليمن في ذلك العهد.
وسواء أصح هذا التعليل أم لم يصح، فلسنا نستطيع أن نتجاهل العامل الأجنبي في تحريك البواعث التي أدت إلى انتقاض العرب وردتهم، لقد رأى عاهل الفرس وإمبراطور الروم في رسالة محمد إليهما وإلى غيرهما من الملوك والأمراء ليدينوا بالإسلام ما جعلهما يعملان على إيقاظ نار الفتنة في بلاد ليس بها من أسباب الوحدة غير الدين الجديد يجمع كلمتها ويضاعف قوتها، ولا شيء كالفتنة يضعضع العزائم ويفتت في أعضاد الأمم.
وأيا كانت الأسباب التي أدت إلى فتنة العنسي، ثم إلى فتنة طليحة وفتنة مسيلمة، وإلى انتقاض العرب على سلطان المسلمين حتى فيما جاور المدينة، فإن الأمر الثابت أن وفاة النبي بعثت كل أسباب الفتنة من مرقدها.
كيف دبر أبو بكر لمواجهة هذه الفتنة والقضاء عليها؟ وكيف استطاع أن يتغلب على عوامل الفتنة وأن يجمع كلمة العرب؟ وكيف مهد للإمبراطورية الإسلامية كي يقيمها خلفاؤه على أقوى دعامة وأمتن أساس؟
ذلك كل عهده، وفي هذا الكتاب حديثه.
الفصل الرابع
Halaman tidak diketahui