وخرج أبو بكر إلى عمر وقد تولاه العجب؛ أي أمر يمكن أن يدعى إليه فيصرفه عن جهاز رسول الله! قال عمر: «أما علمت أن الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة يريدون أن يولوا هذا الأمر سعد بن عبادة، وأحسنهم مقالة من يقول منا أمير ومن قريش أمير!» ولم يتردد أبو بكر حين سمع ذلك أن مضى مع عمر مسرعين إلى السقيفة ومعهما أبو عبيدة بن الجراح، وكيف يتردد والأمر أمر المسلمين ومصيرهم، بل أمر هذا الدين الذي أوحي إلى محمد ومصيره! إن حول جثمان الرسول أهله يقومون بما يجب لجهازه ودفنه، فلينطلق مع صاحبيه إلى السقيفة، فذلك واجب عليه لله ورسوله لا يستطيع غيره أن ينهض به، وهو لم يتخل يوما عن أداء الواجب والنهوض بأجسم التبعات وإن اقتضاه ذلك بذل ماله ونفسه.
مضى ثلاثة الرجال لم يثنهم أن لقيهم عاصم بن عدي وعويم بن ساعدة فقالا لهم: ارجعوا فإنه لا يكون ما تريدون، فلما قالا: «يا معشر المهاجرين، لا تأتوهم واقضوا أمركم.» قال عمر: «والله لنأتينهم.»
وبلغ الثلاثة السقيفة والأنصار لا يزالون في حوارهم لم يبايعوا سعدا ولم يقطعوا في ولاية الأمر برأي، ودهش الأنصار حين رأوهم فأمسكوا عن القول، وكأنما سقط في أيديهم، وسأل عمر بن الخطاب عن رجل مزمل بين ظهرانيهم من هو، فأجابوا: هذا سعد بن عبادة به وجع، وجلس أبو بكر وصاحباه بين القوم وكل تتمشى في نفسه الهواجس يسأل نفسه: عم يسفر هذا الاجتماع؟
والحق أنه كان اجتماعا جليل الخطر في حياة الإسلام الناشئ، ولولا ما أبدى أبو بكر في هذا الاجتماع من قوة الحزم وصلابة الإرادة لأوشك هذا الدين الجديد أن يثور الخلاف عليه في موطنه كما ثار في مواطن أخرى من بلاد العرب، وأن يثور وجثمان صاحب الرسالة ما يزال في بيته لم يثو في قبره.
أرأيت لو أن الأنصار أصروا على أن يستبدوا بالأمر دون الناس استجابة لدعاء سعد بن عبادة ولم ترض قريش أن يكون لغيرها الأمر، فأي مسرح للثورة كانت تصبح مدينة الرسول! ولأية ثورة جائحة مسلحة وجيش أسامة في أحشائها فيه المهاجرون وفيه الأنصار وكلهم مدجج بسلاحه قد لبس درعه واتخذ للقتال عدته!! ولو أن المهاجرين الذين ذهبوا إلى السقيفة كانوا غير أبي بكر وعمر وأبي عبيدة ممن ليس لهم في نفوس المسلمين جميعا ما لوزيري رسول الله ولأمين الأمة من مكانة، لشجر الخلاف بينهم وبين الأنصار، ولخيف على جماعة المسلمين من الاختلاف وما يجر إليه، ولكان لذلك أثره الذي لا يفكر اليوم فيه مؤرخ، ولما وقف الأكثرون من اجتماع السقيفة عند رواية الحوادث وذكر الخطب التي تبودلت وما تم على أثرها من بيعة أبي بكر، أما الذين يقدرون الحوادث قدرها، فيرون لهذا الاجتماع التاريخي من الأثر في حياة الإسلام ما كان لبيعة العقبة الكبرى، وما كان لهجرة الرسول من مكة إلى المدينة، ويرون فيما كان من أبي بكر وحسن تصرفه في الموقف عمل الرجل السياسي، بل رجل الدولة البعيد مرمى النظر، والذي يقدر النتائج ويرتب للاحتمالات، ويوجه كل جهده إلى الغرض الذي يريد أن يحقق به أعظم الخير ويتقي به كل ضر أو أذى.
ألفنا في حياتنا الحاضرة عبارات يصور بها الساسة أحوالا أو أعمالا يحسبونها بدعا لم يسبقهم إليه في التاريخ أحد، ومن مألوف ما نسمع في هذا الزمن عبارة «الهجوم السلمي»، وهذا الهجوم السلمي لم يكن مجهولا في العصور الماضية، بل هذا الهجوم هو ما لجأ إليه أبو بكر وأتمه صاحباه في ذلك الاجتماع التاريخي الجليل الخطر.
لما اطمأن بالمهاجرين الثلاثة المجلس خرج الأنصار من صمتهم وزايلتهم دهشتهم، ولم يخف أشدهم حماسة حرصهم على أن يكون الأمر من بعد الرسول لهم، قال عمر: «وكنت قد زويت
2
كلاما أردت أن أقوم به فيهم، فلما أن دفعت إليهم ذهبت لأبتدئ المنطق، فقال لي أبو بكر: «رويدا حتى أتكلم ثم انطق بعد بما أحببت».» وإنما خشي أبو بكر شدة عمر في القول، وليس الموقف موقف شدة أو عنف، بل موقف سياسة وحسن مدخل، ونهض أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه وذكر رسول الله وما جاء به من رسالة التوحيد ثم قال: « ... عظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه، والإيمان به، والمؤاساة له، والصبر معه، على شدة أذى قومهم لهم، وتكذيبهم إياهم، وكل الناس مخالف لهم زار عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم، وشنف
3
Halaman tidak diketahui