ومن يومئذ أعد أبو بكر راحلتين وأقام ينتظر مصيره ومصير صاحبه، وإنه لفي بيته ذات مساء إذ أقبل محمد كدأبه كل مساء، وأخبره أن الله أذن له في الهجرة إلى يثرب، ورغب الصديق إلى رسول الله أن يكون رفيقه في الهجرة، فأجابه إلى ما طلب، وعاد محمد إلى بيته وفتيان قريش يحاصرونه مخافة أن يفر، وأسر محمد إلى علي بن أبي طالب أن يتسجى برده الحضرمي الأخضر وأن ينام في فراشه، ففعل، فلما كان الثلث الأخير من الليل خرج في غفلة من فتية قريش إلى دار أبي بكر، فإذا هو يقظ ينتظره، وخرج الرجلان من خوخة في ظهر الدار وانطلقا جنوبا إلى غار ثور فاختبآ فيه.
وأطلقت قريش فتيانها في كل واد وفي كل جبل، يبحثون عن محمد ليقتلوه، فلما بلغوا ثورا تسلقه أحدهم إلى الغار، لعله أن يعثر به، وتصبب أبو بكر عرقا حين سمع تناديهم، وأمسك أنفاسه وبقي بلا حراك به وأسلم لله أمره، أما محمد فظل فيما كان فيه من ذكر الله والصلاة له، واقترب أبو بكر من صاحبه وألصق به نفسه، فهمس محمد في أذنه: «لا تحزن، إن الله معنا.»
وأدار الفتى القرشي بصره فيما حول الغار فرأى العنكبوت نسجت على فوهته، فانصرف يقول لأصحابه الذين سألوه ما له لم يذهب إليه: «إن عليه العنكبوت من قبل أن يولد محمد.» وانصرف الفتية قافلين يعضون البنان ندما، فلما بعدوا نادى محمد: «الحمد لله، الله أكبر!» وازداد أبو بكر بما رأى إيمانا وتثبيتا.
أفكان فزع أبي بكر حتى ليتصبب منه العرق ويمسك أنفاسه ويلتصق برسول الله بعض ما دعا إليه حب الحياة والحرص عليها، فهو يخشى على نفسه أن يصيبه المكروه؟ أم إنه لم يفكر في نفسه ما فكر في رسول الله، وإنه كان يود لو يفتدي رسول الله بنفسه إن استطاع؟ روى ابن هشام عن الحسن بن أبي الحسن البصري قال: «انتهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر إلى الغار ليلا، فدخل أبو بكر (رضي الله عنه) قبل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فلمس الغار لينظر فيه سبعا أو حية، يقي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بنفسه.» وذلك كان شأنه في تلك اللحظة الدقيقة من حياته حين كان يسمع إلى فتيان قريش، فيهمس في أذن النبي: «لو بصر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا.» لم يكن يفكر فيما قد يصيبه، وإنما كان يفكر في رسول الله وفي مصير الدين الذي يدعو إليه بأمر ربه لو أن هؤلاء الفتية ظفروا به فقتلوه، بل لعله لم يفكر في شيء بذاته تلك اللحظة، وإنما كان شأنه شأن الأم تخشى الخطر على ابنها، فهي ترتجف وتفزع ويتولاها الهلع ثم لا يساعفها عقلها برأي أو تفكير، فإذا دنا الخطر منها ألقت بنفسها في وجهه تريد أن تصده أو تموت دونه، أم إن أبا بكر كان أشد من هذه الأم هلعا وأكثر منها استهانة بالخطر إذا أقبل؛ لأن إيمانه بالله ورسوله كان أقوى من حب الحياة ومن فطرة الأمومة ومن كل ما تحسه نفوسنا أو يدور بخواطرنا، وما بالك بإيمان تجسم أمامه في رسول الله فتجسمت معه كل المعاني المقدسة في أعظم صورها قدسية وأسماها روحانية! أتصور الساعة أبا بكر في مجلسه ورسول الله إلى جانبه، وأتصور الخطر محدقا بهما مقبلا عليهما، فلا يسعفني خيالي بمثال يبرز كل ما في هذه الصورة الفذة من حياة لا نظير لها في كل صور الحياة.
قص التاريخ نبأ أشخاص وهبوا أنفسهم فداء زعيم من الزعماء أو ملك من الملوك، وفي عصرنا اليوم زعماء يقدسهم الناس، فهم أحب إليهم من أنفسهم، لكن موقف أبي بكر بالغار يختلف عن ذلك كل الاختلاف، وهو لذلك جدير بالتحليل يقوم به أشد علماء النفس دقة، وأكثرهم في التصوير براعة، فأين إيمان الناس بالزعماء أو الملوك من إيمان الصديق بالرسول الذي اصطفاه الله فأوحى إليه دينه الحق!! وأين لذلك افتداء الناس ملوكهم وزعماءهم مما جال بخاطر الصديق في هذه اللحظة التي خشي فيها الخطر على حياة الرسول، ثم كان أشد خشية ألا يدفع الخطر دافع؟!! هذا مقام من السمو لا سبيل للرقي إلى تصويره؛ ولذا أمسك كتاب السيرة عن الحديث فيه أو كادوا.
Halaman tidak diketahui