131

Siddiq Abu Bakr

الصديق أبو بكر

Genre-genre

وقد امتدت حكومة أبي بكر إلى ما وراء بلاد العرب، ومهدت للإمبراطورية الإسلامية المترامية الأطراف، أفكان ذلك مصادفة محضة تضافرت العوامل على نجاحها، أم إن التطور الذي صورناه وأدى الإسلام الناشئ إليه قد حتم هذا الفتح، وبلغ به مداه حين بلغت الإمبراطورية الإسلامية مداها؟

لا أتردد في القول بأن هذا التطور كان محتوما؛ لأن تعاليم الإسلام تنطوي بطبيعتها عليه، فالإسلام في جوهره إمبراطوري، كما أنه في جوهره شعبي، وإن اختلفت الفكرة الإمبراطورية فيه عن الفكرة الإمبراطورية في عهدنا الحاضر في أسسها وفي غاياتها.

ويرجع الخلاف إلى أن الإسلام يدعو إلى حرية العقيدة، ويفرض على المؤمنين به أن يدافعوا عنها بأموالهم وأنفسهم، وهو إذ يدعو إلى هذه الحرية في العقيدة لا يفرض على الناس أن يدينوا به على كره منهم، فلا إكراه في الدين، وإنما يريد لكل إنسان حرية النظر والتقدير حتى يستمع إلى القول فيتبع أحسنه، وهو مطمئن إلى أن الناس متى عرفوا تعاليمه اتبعوه؛ لأنه يدعو إلى ما يرضاه العقل وما يتفق مع الفطرة السليمة في الإنسان.

وحرية العقيدة كانت ولا تزال في حاجة إلى الدفاع عنها وإلى الاستشهاد في سبيلها، فالظالمون لا يطيقونها، بل يمقتونها أشد المقت، والذين يريدون أن يستغلوا الشعوب يزينون للشعوب أسوأ ما في عقائدهم وأشده فسادا؛ وهم لذلك لد في خصومة الأحرار المصلحين، أما والإسلام يريد الإصلاح ما استطاع ، يقيمه على أساس من الرأي الحر يقتنع به صاحبه فيؤمن به، وللناس بعد ذلك أن يكيفوا مصالحهم في هذه الحياة كما يرون؛ لأنهم أعلم بأمور دنياهم، فالفكرة الإمبراطورية في الإسلام إنسانية روحية، غايتها الأولى تحرير العقل إلى حيث يسمو على كل ضغط وكل اضطهاد.

والحجة القاطعة على ذلك أن المسلمين لم يفرضوا دينهم على البلاد التي فتحوها، ولم يكرهوا الناس يوما حتى يكونوا مؤمنين، بل إنهم كانوا إذا فتحوا بلادا أباحوا لأهلها حرية العقيدة، فمن أسلم فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن آثر دينا غير الإسلام أدى الجزية، ولم تكن الجزية مغرما يفرض أية ذلة أو خضوع، وإنما كانت تقابل الزكاة المفروضة بحكم الدين على المسلمين، لإقامة نظام الدولة وللدفاع عن كيانها، ولقد رأيت فيما عقده المسلمون من معاهدات الصلح مع أهل العراق وأهل الشام أن الجزية كانت تؤدى لقاء دفاع المسلمين عن أموال من لم يسلموا، وعن حريتهم في عقيدتهم وإقامة شعائر دينهم، ولذلك كانت هذه المعاهدات تنص على حماية بيعهم، وكنائسهم، ومعابدهم، وأحبارهم، ورهبانهم، فإذا لم يقم المسلمون بالتزاماتهم المفروضة في الصلح أعفي غير المسلمين من دفع الجزية بحكم العهود وبنصها الصريح.

إمبراطورية تقوم على هذه الأسس تختلف أغراضها عن الأغراض الإمبراطورية كما فهمها الرومان، وكما نفهمها في العصر الحاضر، اختلافا جوهريا، فهي لا تجعل خضوع الناس للعرب أو لشعب بذاته غايتها، وإنما غايتها الأولى أن يعيش الناس أحرارا، وأن تربط بينهم أواصر الرحمة والمودة والعدل، وأن يكون للأمم المفتوحة من ذلك ما للأمة الفاتحة، وكما يقوم الحكم في مهد الإسلام على أساس الشورى، يجب أن يقوم في كل أمة فتحها المسلمون على أساس الشورى، وأهل هذه الأمم يتمتعون بالحقوق التي يتمتع بها العرب؛ من أسلم فله ما للعرب المسلمين وعليه ما عليهم، ومن لم يسلم فله ما للعرب غير المسلمين؛ وعليه ما عليهم، فالذين احتفظوا بنصرانيتهم من أهل العراق أو من أهل الشام، مثلهم كمثل الذين احتفظوا بنصرانيتهم في نجران وفي غير نجران من بلاد العرب ، وإنما يربط بين هذه البلاد التي تدين بالإسلام رباط واحد، ذلك رباط التوحيد والدعوة إليه والدفاع عن حرية هذه الدعوة، أما فيما وراء ذلك فأمر البلاد التي تؤلف الإمبراطورية الإسلامية كأمر بلاد العرب في عهد الرسول؛ عصبة أمم تسعى لغرض إنساني بالغ غاية السمو، تجاهد في سبيله، وتعمل لإعلاء كلمته، وسبيلها إلى هذه الغاية الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن،

فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل (يونس: 108).

لم ينفسح الأمد لأبي بكر كي يقيم على هذا الأساس نظاما للحكم في البلاد التي فتحها المسلمون في عهده، وقد ترك خالد بن الوليد لأهل المدن المفتوحة في العراق أن يتولوا إدارتها، في حين احتفظ المسلمون بسياسة الدولة وتوجيه شئونها العامة، ولم يكن ذلك تنظيما للحكم، وإنما كان ضرورة قضت بها الخطط الحربية في وقت كان القتال ناشبا فيه بين المسلمين والفرس، فكان الأمر فيه للقيادة العسكرية.

وكان شأن الشام حين الفتح كشأن العراق، ولقد كان الحكم على أساس الشورى جديدا بين الشعوب التي فتحها المسلمون، كما كان الإسلام جديدا بين الأديان التي أحاطت بشبه الجزيرة من كل جانب، وإنما كان حكم الفرد مطلقا في هذا العهد، وكان الرهبان والكهنة وسائر رجال الدين يؤيدون هذا الحكم المطلق، ويخلعون على أصحابه قدسية رهيبة تنخلع القلوب من هيبتها، ويخر الناس سجدا أمامها، لذلك لم يلبث الناس حين رأوا هذا الحكم الجديد قائما على الإنصاف والعدل، متحريا إرادة الشعب في حدود ما أمر الله به وما نهى عنه، أن أقبلوا عليه ورحبوا بأهله؛ فكان إقبالهم سببا من أسباب النصر الذي أفاءه الله على المسلمين، فمد إمبراطوريتهم في سنوات محدودة لتحل محل الإمبراطوريتين الرومية والفارسية، ولتتخطى حدودهما إلى الهند شرقا وإلى شمال إفريقية غربا، فتنشر حيثما ذهبت لواء الحق والعدل والإيمان الصادق، وتقر مبادئ الحرية والإخاء والمساواة في أسمى صورها وأجدرها بالإنسانية الطامحة إلى الكمال.

لم ينفسح الأمد لأبي بكر كي يقيم نظاما للحكم في البلاد التي فتحها المسلمون لعهده، ولم ينفسح له الأمد كذلك كي يقيم نظاما ثابتا للحكم في بلاد العرب نفسها، وكل ما تلوته في هذا الكتاب من خطب الخليفة الأول، ومن تصرفاته في إقامة عمر بن الخطاب على القضاء، وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت على الرسائل، يشهد بأن الفكرة الإسلامية في نظام الحكم كانت إلى يومئذ في طور الاستجنان، واضحة الأساس في كتاب الله وفي سنة رسوله، مبهمة التفاصيل فلا يستطيع أحد أن يذكر عنها ما يستطيع أن يذكره عن الحكومة الإسلامية في العهد الأموي أو في العهد العباسي، بل في عهد عمر وفي عهد عثمان، وذلك طبيعي في حكومة ألقت الأقدار عليها أن تكون حكومة انتقال من عهد إلى عهد جديد يختلف عن سابقه كل الاختلاف في لون الحضارة، وفي العقيدة، وفي طرائق التفكير وفي كل ما يتصل بنظم الحياة.

Halaman tidak diketahui