ولا يقف مثار الحيرة عند هذا، فكثيرا ما يتعذر تتبع الحوادث في تسلسلها الجغرافي، بل إن بعض الروايات ليتنافى مع هذا التسلسل، دع عنك تغير أسماء الأماكن وما في تشابه بعضها من مثار جديد للحيرة، ولقد طبع بعض المستشرقين خرائط الإدريسي القديمة كما رسمها، وشفعوها بخرائط رسموها على النحو المألوف لنا، فسهل ذلك علينا معرفة الأماكن ومواقع بعضها من بعض، ولئن يسر ذلك لنا أن نحقق ما كان عسيرا تحقيقه فيما مضى، لقد أثار الريب في بعض الروايات حتى ليتعذر تصديقها، لذلك وقف بعض المؤرخين لعهد أبي بكر مترددين لا يكادون يصدقون ما يقرءون، وكأنما صرف ذلك كله غير واحد ممن أرادوا التأريخ للإسلام عن التصدي لهذه الأمور، فاكتفوا من عهد أبي بكر بإلمامات لا تصوره صورة كاملة تبرز كل ما لهذا العهد من جلال، وما له من تاريخ الإسلام وفي قيام الإمبراطورية الإسلامية من أثر حاسم.
أضف إلى هذا الاضطراب في المراجع أنها لا تتحدث عن الصديق أيام خلافته ما تتحدث عن خالد بن الوليد وعن القواد الذين دخلوا الشام وأقاموا به حتى جاءهم خالد من العراق ففتح وإياهم دمشق وهدم بعبقريته الحربية كل قوة معنوية للروم، وأنت إذ تقرأ هذه المراجع يكاد يخيل إليك أن أبا بكر قد أقام بالمدينة لا يشغله أمر عن العبادة، وهذا خطأ فاحش، فكل ما تم في عهد الصديق كان الصديق روحه ومصدره. أشرنا إلى ما كان بينه وبين عمر وطائفة من المسلمين من خلاف على قتال المرتدين ومن منعوا الزكاة، وإلى أنه تشبث بقتالهم ولو خرج إلى هذا القتال وحده، وسترى حين تتلو فصول هذا الكتاب أنه هو الذي دفع خالد بن الوليد ليسير إلى العراق يعزز قوات المثنى بن حارثة الشيباني، وأنه هو الذي دعا العرب في أنحاء شبه الجزيرة إلى فتح الشام، فلما أبطأ أبو عبيدة ومن معه من القواد عن التقدم فيه أمدهم هو بخالد بن الوليد، وفي أثناء ذلك كان هو الذي ينظم بيت المال، ويقسم الفيء بين المسلمين، ويولي العمال ويهيمن على أعمالهم، وقد بلغ به هذا التفرغ لشئون الدولة أن انقطع عن التفكير في كل شيء سواها من أموره الخاصة ومن أمور أهله وعياله، وهذا التفرغ التام لشئون الدولة، دقيقها وجليلها، هو الذي طوع له أن يتم في فترة وجيزة ما لا يتمه غيره في سنوات، بل ما قل أن يتمه غيره، ولعل سببا آخر كان ذا أثر فيما قدمنا عن موقف الرواة والمؤرخين من أبي بكر وعهده؛ فهم قد حسبوا أن صحبته الرسول عشرين سنة كاملة، واصطفاءه
صلى الله عليه وسلم
إياه حتى ليقول: «لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا.» - حسبوا أن هذا وذاك أجل من كل ما تم في خلافته، ولا مرية في أن مكان الصديق من رسول الله لها في تقديرنا جميعا أجل أثر وأعظم مقام، لكن خلافة الصديق كانت حلقة أتمت هذا الأثر الجليل وتوجته.
لم يكن عمل الصديق في خلافته أقل جلالا من صحبته رسول الله، بل إنه كان في عهد الرسول ثاني اثنين، أولهما صفي الله لنبوته ومن خصه الله برسالته وأوحى إليه كتابه بينات من الهدى والفرقان، فالعبء الذي حمله أبو بكر أيام الرسالة كان عبء التابع المؤمن الذي لم تتلجلج قوة إيمانه بالله ورسوله، أما العبء الذي حمله بعد أن اختار الله رسوله إليه فحمله على أنه أول رجل في المسلمين وخليفة رسول الله بينهم، لم يكن فيه تابعا يدلي بالمشورة، بل كان متبوعا يشير أصحابه عليه، كما كان يشير هو ومن معه على رسول الله، وقد حمل هذا العبء بإيمان وأمانة وصدق، جزاه الله وجزى المسلمين عنه أحسن الجزاء، فإذا كان صدق أبي بكر في صحبة رسول الله من أسمى مظاهر العظمة الإنسانية القائمة على دعامة متينة من الإيمان السليم، فتجرد أبي بكر في خلافته للدفاع عن دين الله وللدعوة إليه ولإقامة الإمبراطورية الإسلامية لا يقل في جلال سموه عن صحبته الرسول وإيمانه الصادق به وبكل ما أوحاه الله إليه، وتاريخ خلافته جدير لذلك بأن يفصل أدق التفصيل.
هذا الاضطراب في المراجع، وهذا التأثر في تصوير عهد الخليفة الأول بعوامل لا يقر النقد التاريخي الكثير منها، قد كان له ما رأيت من أثر في كتب المتقدمين، ثم كان له أثره فيما تلاه ذلك من جهود من أخذوا عنهم وحاولوا أن يستنبطوا صورة الحقيقة كاملة من كتبهم، ولقد بلغ هذا التأثر ببعض المتأخرين أن جعلهم لا يقفون عند عهد أبي بكر إلا لماما ثم يتخطونه إلى عهد عمر فيطيلون الوقوف عنده، بل لقد بلغ الأمر ببعضهم أن يوازن بين عهد أبي بكر وعهد عمر ليفاضل بينهما، وهذه مفاضلة لا موضع لها بين رجلين بلغ كل منهما من مراتب العظمة ما قل أن يبلغه سياسي أو حاكم لأمة في تاريخ العالم كله، ولقد كان عهد عمر من أعظم عهود الإسلام لا ريب، فيه استقرت قواعد الإمبراطورية، واستتب نظام الحكم، ورف لواء الإسلام على مصر وغير مصر من البلاد التي اعتز بها الروم واعتز بها الفرس، لكن هذا العهد الفاروقي العظيم مدين لعهد الصديق ومتم له كدين خلافة الصديق لعهد الرسول وإتمامها له.
على أن الدراسات التي تمت والكتب التي وضعت عن أبي بكر وعهده في العصور الأخيرة كانت أدنى إلى الدقة والإنصاف، ومن الحق علي أن أشيد بما كان للمستشرقين من فضل السبق إلى هذه الدقة وإلى هذا الإنصاف، على تحيز بعضهم تحيزا دفعت إليه العاطفة الدينية، فقد صنف «الأب ماريني» كتابه عن «خلفاء محمد» في القرن الثامن عشر؛ وصنف «كوسان دبرسفال» مؤلفه «رسالة في تاريخ العرب» في أوائل القرن التاسع عشر؛ وكتاب «السير وليم ميور» عن «الخلافة الأولى» يرجع إلى سنة 1883، وفي أثناء ذلك، وإلى وقتنا الحاضر، لم يبرح المستشرقون في ألمانيا وإنجلترا وإيطاليا وفرنسا وغيرها من الدول يمحصون العهود الإسلامية المختلفة تمحيصهم غيرها من عصور التاريخ في مختلف أنحاء العالم.
أما وقد ذكرت جهود المستشرقين، فمن الحق علي أيضا أن أذكر جهود المؤرخين المسلمين والعرب، وما كان من إنصافهم عهد الصديق ومحاولتهم الدقة في أمره.
أرخ السيد رفيق العظم لهذا العهد منذ بضع عشرات من السنين في الجزء الأول من كتابه «أشهر مشاهير الإسلام»: وكان متأثرا بطريقة الأقدمين في كثير من مواقفه، وتحدث المرحوم «الشيخ محمد الخضري بك» فقال في ختام محاضرته له: «إنا نقول في ذلك قولا صريحا: لولا أبو بكر وعزيمته القوية، بعد معونة الله وتأييده، ما كان تاريخ المسلمين يسير سيره الذي عرف، حصل ذلك في وقت استولى فيه الذهول على أفئدة المسلمين كافة حتى أقواهم شكيمة وأشدهم قلبا.»
وأفرد الأستاذ «عمر أبو النصر» الجزء الأول من كتابه «خلفاء محمد» للصديق وعهده، كذلك تحدث المرحوم «الشيخ عبد الوهاب النجار» وغيره من المؤرخين عن هذا العهد حديثا جديرا بالتقدير.
Halaman tidak diketahui