أكانت اليرموك في عهد أبي بكر كرواية الطبري ومن إليه، أم في عهد عمر كرواية البلاذري ومن شاكله؟! ربما أيد رأي الطبري أن واقوصة الواقعة على اليرموك والتي حدثت المعركة عندها، قريبة من بادية الشام، ومن تخوم العرب، ومن طريق وادي سرحان، وأنها كانت لذلك أدنى الأرض إلى جيوش المسلمين حين التقائها بعد أن جاءت من المدينة تغزو هرقل وإمبراطوريته، وربما أيد رواية البلاذري ومن شاكله ما ذكره الطبري نفسه من أن الروم تراجعوا منذ بدأت الحرب نحو دمشق، مطمئنين إلى حصونها وإلى قوة المدن الحصينة المحيطة بها، وأنهم أرادوا بتراجعهم أن يستدرجوا العرب إلى المواقع القوية ليوقعوا بهم ويردوهم منهزمين إلى بلادهم فلا تحدثهم أنفسهم بالعود إلى غزو الشام كرة أخرى.
من العسير، والأمر ما ترى، أن نقطع كيف كان ترتيب الوقائع في فتح الشام أما عزل ابن الخطاب خالدا عن إمارة الجيش فالأمر فيه يسير فالطبري والبلاذري والمؤرخون جميعا متفقون على أن أبا بكر بعث خالدا من العراق إلى الشام لينسي الروم وساوس الشيطان، وذلك بعد أن سئم جمود قوات المسلمين هناك، وإنما يقع الخلاف على مكان خالد من زملائه الأمراء: أذهب أميرا عليهم جميعا، أم ذهب أميرا على القوة التي فصل بها من العراق دون سواها فإذا انحسم هذا الخلاف تيسر لنا أن نفهم أمر ابن الخطاب بعزل خالد.
يذهب الطبري ومن إليه إلى أن ابن الوليد ذهب إلى الشام أميرا على القوة التي فصل بها من العراق، وأنه لم يتول الإمارة العامة إلا يوم اليرموك، وذلك حين اتفق مع زملائه أن يتعاوروا الإمارة بينهم، وأن يتأمر هو اليوم الأول، أما البلاذري ومن شاكله فيذكرون أن أبا بكر بعثه أميرا على قوات المسلمين كلها بالشام، ويثبتون نص الكتابين اللذين بعث بهما الخليفة إلى خالد وإلى أبي عبيدة متضمنين أمره هذا، ولسنا نتردد في الأخذ برواية البلاذري؛ فليس طبيعيا أن تقف جيوش دولة بعضها إلى جانب بعض ولا تسند القيادة العامة على القوات كلها إلى أحد أمراء هذه الجيوش، والطبري نفسه يثبت أن أبا بكر بعث إلى أمراء الجند بالشام أن يجتمعوا عسكرا واحدا وأن يلقوا زحف المشركين بزحفهم، وهذا أمر لا سبيل إلى نفاذه إذا تفرقت القيادة، وقد أصدر الخليفة هذا الأمر قبل أن يبعث ابن الوليد إلى الشام فلا بد أن إمارة الجيش العامة كانت لأبي عبيدة أو ليزيد بن أبي سفيان أو لغيرهما من سائر الأمراء، والراجح أنها كانت لأبي عبيدة وإن ذكر بعضهم أنه استعفى أبا بكر منها، أما وذلك ما لا نتردد في القطع به فلا شبهة في أن أبا بكر أوفد خالدا من العراق إلى الشام أميرا على جيوش المسلمين كلها على نحو ما رواه البلاذري ومن شاكله.
ولولا أن خالدا كان الأمير على جيوش المسلمين لما عزله عمر بن الخطاب عن هذه الإمارة أول ما استخلف، فالثابت في كتاب الطبري وغيره من المؤرخين أن خالدا ظل بعد عزله هذا أميرا على القوات التي كان يباشر قيادتها، وأنه ظل كذلك حتى عزله عمر عن إمارة قنسرين وعن عمله في الجيش، وذلك في السنة السابعة عشرة من الهجرة ، وهي السنة الخامسة من خلافه عمر؛ فالعزل الأول كان إذن عن القيادة العامة، أما العزل الذي حدث بعد ذلك بما يزيد على أربع سنوات فكان عن عمله كله.
هذا ما نقطع به، وما لا شبهة عندنا فيه، وهو وحده الذي يفسر تصرف عمر أول ما استخلف، فلو أن خالدا كان أميرا على القوات التي فصل بها من العراق دون سواها لما احتاج عزله إلى أمر من الخليفة، ولاسترد أبو عبيدة إمارته على جيوش المسلمين بعد يوم اليرموك في رواية الطبري، أو بعد دمشق في رواية البلاذري.
وهذا اليوم الذي عزل ابن الخطاب فيه خالدا عن إمارة الجيش العامة إثر معركة من أكبر المعارك في فتح الشام هو في حياة خالد من أمجد أيامه، وليس يقف مجده في ذلك اليوم عند انتصاره على عدوه، فقد كان هذا النصر واحدا من عشرات، إنما أكبر مجده يومذاك أنه انتصر على نفسه، فلم يضعف عزل الخليفة إياه من حماسته لله ولدين الله، ولم ينهنه من قوة بأسه وعظيم شعوره بواجبه؛ فقد رضي إمارة أبي عبيدة وسلم بها طائعا، وسار على رأس لوائه يخوض المعارك واحدة بعد أخرى فإذا هو هو، وإذا النصر يسير في ركابه، وإذا المسلمون والروم يتحدثون بفعاله، وكأنه القائد الأول، وكأنه النصر تجسم رجلا، وكيف لا يكونه وهو سيف الله فلا غالب له!
لا جناح علينا ونحن نختتم الآن حديث خالد في عهد أبي بكر أن نقص رواية أثبتها الطبري وأثبتها ابن الأثير، وإنما نقصها على علاتها لا نحمل تبعتها ولا نطلب إلى القارئ تصديقها فقد ذكرا أن چرچة القائد الرومي خرج صبح يوم اليرموك حتى كان بين الجيشين ونادى: ليخرج إلي خالد، فخرج خالد حتى اختلفت أعناق دابتيهما وقد أمن كل منهما صاحبه، عند ذلك قال چرچة: يا خالد اصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع، هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟ وأجابه خالد بالنفي ، فقال: فيم سميت سيف الله؟ وأجابه خالد فحدثه عن بعث الله رسوله، وأن الله هداه للإيمان به والذود عن دينه، ولذلك قال رسول الله له: «أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين.» ودعا له بالنصر، فسمي «سيف الله» بذلك، ثم دار بين الرجلين حوار حول رسالة محمد انتهى بإسلام چرچة وصلاته ركعتين وإلى قتاله في صف خالد ومقتله مع المسلمين الذين قتلوا في الموقعة.
قصصت هذه الرواية على علاتها؛ لأنها تصور ما لخالد وعبقريته في النفوس من أثر جعل الطبري وابن الأثير وغيرهما من المؤرخين لا يرون بأسا في تصديق كل ما يتصل بهذا القائد النابغة البطل صاحب المعجزات في الحرب، وهو في الحق جدير أن يبلغ إعجابنا به غاية ما نعجب ببطل من أبطال العالم في تاريخ العالم كله، وإن لم يسوغ لنا الإعجاب أن نقبل إلا ما يثبت أمام النقد وما يقره المنطق السليم.
والآن، وداعا خالد! وداعا فاتح العراق وسورية، وموطد القواعد من الإمبراطورية الإسلامية! وداعا سيف الله البتار! ولعل الأقدار تجمعنا يوما في عهد الفاروق عمر!
الفصل الخامس عشر
Halaman tidak diketahui