وينصرف لتعلو في سمعه عند الباب قهقهات عالية ساخرة، ويلتئم الجمع حول المنتصر فيجدون الفتى غير معتز بانتصاره. - أنتم جميعا شركاؤه والفتيات منكم خاصة، كيف تأمن أي واحدة منكن أن يقول عنها مثل هذا القول؟
وينصرف الفتى المنتصر في غضب، وينتقل الحديث جميعه إليها فتجد في نفسها راحة واطمئنانا، إن الدنيا ليست بالسوء الذي كانت تتصوره، إن هذا الفتى الذي دافع عنها حاول أن يقيم معها صداقة فردته هو أيضا ولكنه شريف.
وتمر الأيام ولا يحاول أن يتقرب منها، إنها تعرف أنه يحس بنظراتها الشاكرة تلقيها إليه من بعيد ويروغ هو من هذه النظرات؛ فقد قال ما يعتقد أنه الحق وهو لا يريد منها شكرا، وتأبى هي أن تقدم شكرها في حديث؛ فهي لا تريد أن يرى زملاؤها أن بينها وبينه أي علاقة ولو كانت هذه العلاقة مجرد حديث.
ودون أن تحس هي ودون أن يحس نشأت العلاقة، فيها إكبار من الناحيتين وفيها شكر من جانبها، بل فيها من جانبها معنى أكبر من مجرد الشكر، لقد أحست أن هذا الشاب قد أعاد إليها ثقتها في الناس. إن فيهم سوءا ولكنهم ليسوا جميعا أشرارا، أحبته من ومضات خاطفة في عينيه أحست أنه يحبها؛ فهي لم تدهش حين تقدم إلى أبيها يريد أن يخطبها، ولكنها دهشت أن أباها لم يسألها عن رأيها وإنما عرفت أنه صرفه دون قبول، تقول أمها إنه فقير لا يملك إلا مرتبه حين يعين. تلك الحجة التي يراها الآباء دائما مقنعة، والتي يراها الأبناء دائما سخيفة.
كان رفض أبيها مؤلما بالنسبة لها، كيف ينهار هذا التمثال الذي أقامته له في نفسها، لقد ظل طول حياتها يعلمها أن الحرية هي أثمن ما يملكه الإنسان، ثم هو في لحظة واحدة يسلبها كل حريتها وهي أهم ما يعرض لفتاة في حياتها، انهار تمثال أبيها، إنها تعلم أنه يلين أمام أمها في أمور كثيرة، ولكنه من المبادئ الأساسية التي يؤمن بها لا يلين، فكيف قبل أن يعتسف حق ابنته في اختيار شريك حياتها؟ وكيف قبل أن يرده دون أن يسألها؟
إن هذا الذي رده أبوها هو الشخص الوحيد الذي تريد بحريتها الكاملة أن تتزوج منه، وشباب الدنيا جميعها بعد ذلك سواء، ما دامت لن تتزوج هذا الشاب فليكن الزوج من يكون.
وحين أقبل زوجها هذا: ما رأيك؟ - لا رأي لي. - فأنت إذن موافقة. - إذا كان عدم إعطاء الرأي موافقة فأنا موافقة.
واعتبرت أمها هذا الحديث القصير موافقة، وتمت مراسيم الزواج وأبوها بعيد عن الموضوع جميعا وكأنه لا يعنيه.
وحين أصبحت في بيت زوجها تبينت هول ما حدث لها، لقد قضي عليها. - قالت لي أمك إنك وافقت. - هل سألتني أنت؟ - وهل تكذب أمك في مثل هذا؟ - إنك علمتني الحرية وسلبتها مني، ليتك لم تعلمها لي حتى لا أفجع فيها وفيك وأنت تسلبها مني. - هل سلبت حريتك؟ - منذ رفضت زميلي الذي جاء يخطبني. - إنها أمك. - وأنت أبي. - حسبت أنه لا يهمك أن أرفضه. - ولماذا لم تسأل؟ - كنت في شقاق مع أمك وخشيت أن تظن أنني أقف إلى جوارك للخلاف الذي بيننا. - وأنا الضحية. - لم أتصور أن في الأمر تضحية. - ولماذا لم تسأل؟ - أخطأت. - وحياتي هي الثمن. - ألا تقبلين اعتذاري؟ - وماذا يفيد الآن؟ - قد نستطيع أن نصلح ما فسد. - كيف وقد مت؟ - أنا مت؟! - ألم تمت؟ - من هذا الذي يحدثك؟ - وهم أو شبح.
3 - حتى أنت، حتى أنت، حتى أنت، لقد أعطيتك كل حبي. - وأعطيتك كل حبي. - لم تطلبي شيئا إلا قدمته. - كنت سعيدا وأنت تقدم لي ما أريد. - وكنت سعيدة وأنا أقدم لك ما تريدين. - كنت أحب أن أجد لحبي صدى عندك. - ولكنك كنت كثيرا ما تشك في. - كنت أخشى أن يكون حبك لي مبعثه البحث عما أقدم لك. - هناك من هو أغنى منك ولم أقدم له حبي. - إن الغيرة هي الثمن الذي يدفعه المحب في مقابل هنائه بحبه. - ولكن على حساب ثقته بمن يحب. - أكنت تريدينني محبا لا يغار؟ - كنت أريد حبيبا يهب الثقة ثم يخاف. - أهذا ما أغضبك؟ - لا، لقد تعودت منك هذه الوساوس. - إن الصلة بيننا لم يكن يحميها إلا الحب. - وهل هناك أقوى من الحب؟ - القلوب تتغير. - فهل تمنع الغيرة تغيرها؟ - والمرأة تتغير. - وهل تمنع الغيرة تغيرها؟ - أنا لا أملك الوساوس تثور في نفسي. - الواثق بنفسه يملك وساوسه. - هل يريد أحد أن يخاف؟ - القوي يتحكم في طبائعه. - لكل إنسان ضعفه. - تستطيع دائما أن تثق بنفسك. - وبغيري؟ - إذا وثقت بنفسك وثقت بغيرك. - بكل الناس؟ - بمن تحب. - فإن أحببت من لا يحبني. - فأنت غبي. - هل أنا غبي؟ - إذا أحببت من لا تحب فأنت غبي. - أعظم أذكياء العالم أحبوا من لا يحبونهم. - لم يكونوا يعرفون أنهم غير محبوبين. - خادعوا أنفسهم. - كنت أخاف أن أخادع نفسي. - أن تخادع نفسك خير من أن تثيرها. - أحببتك بجنون. - وأنت تعلم أنني أحببتك بجنون. - لقد جئت لي كموكلة. - كانت سمعتك كمحام كبير. - وكسبت قضيتك. - لقد كنت على حق. - فأنا لست بارعا إذن. - كنت بارعا في اختيارك لي. - أحسست أنك في فراغ. - حين يتوفى الزوج تصبح الزوجة في فراغ. - ولكني أنا أيضا كنت في فراغ. - كان فراغا عاطفيا. - كنت محتاجا إليك. - وكنت محتاجة إليك. - قضيت معك أروع لحظات حياتي. - وإنها أروع لحظات حياتي. - لقد وهبت لي الكثير. - وأنت وهبت لي الكثير ثم ... - ثم ماذا؟ - مللتني. - أنا؟ - تركتني بين الموت والحياة. - كان لا بد أن أسافر في عمل. - وحياتي. - إن عملي يتوقف عليه مصائر الآخرين، إنها مسألة ضمير. - ألم يعاتبك ضميرك في أمري؟ - تركتك بين يدي الأطباء. - ولكني وحيدة. - وماذا كنت أصنع؟ - وأنا وحيدة بسببك. - طبيعة حياتنا تحتم عليك الوحدة. - ألم تفكر في أمري؟ - ماذا كنت أصنع؟ - سؤال العاجزين. - فأجيبي أنت. - كنت تستطيع على الأقل أن تأتي لي بممرضة. - لماذا لم تقولي؟ - مثل هذا لا أقوله أنا. - إنك دائما كنت تطلبين ما تريدين. - إلا هذا. - لماذا؟ - إنها صحتي وحياتي يجب أن ترعاها أنت دون أن أقول. - كنت مشغولا بعملي، ولم يخطر لي هذا ببال. - لو كان أمري يعنيك لخطر هذا ببالك. - لا يجوز أن تحاكميني على فكرة خطرت لك ولم تخطر لي. - ثم عدت من السفر. - لست أدري أي شيطان أخبر زوجتي بعلاقتنا. - فهو حرصك على زوجتك إذن. - بيتي وكياني وسمعتي. - وحبك؟ - كنت أطمئن عليك. - وهل اطمئننت؟ - لقد كنت دائما حريصة على بيتي. - كنت أحسب حياتي عندك غالية. - أنت تعرفين أنها غالية. - كنت أحسب. - ومع هذا فقد سمحت زوجتي للمجلات أن تتكلم في الموضوع. - وهل يهمك هذا؟ - سمعة المحامي في غاية الأهمية. - كل شيء مهم عندك إلا صحتي. - ألا يمكن أن تكون أشياء كثيرة مهمة في وقت واحد؟ - على أن تكون صحتي أهم شيء عندك. - أنت تعرفين أنها أهم شيء عندي. - تركتني وأنا بين الموت والحياة. - ظروف قاسية. - عذر الضعاف. - ألا ترحمين؟ - وماذا تفيد رحمتي الآن؟ - ألا تعرفين ماذا تفيد؟ - لقد فات الأوان. - لم يفت. - لعلي كنت أقبل عذرك، لو لم تكن ... - لو لم أكن ماذا؟ - لقد مت. - أنا مت؟ - لقد مت. - أهي مؤامرة مدبرة؟ - الموت لا يحتاج إلى تدبير المؤامرات. - إذن فأنا ميت. - ميت؟ - أنت ترين هذا. - إنها الحقيقة. - الحقيقة؟! - ميتا أو حيا لن أراك ولن تريني بعد اليوم.
Halaman tidak diketahui