زرت حامد سعيد في داره النائية، وزرت المعرض الذي أقامه لرسوم تلاميذه في متحف الفن الحديث، فعرفت معنى جديدا لأشياء كنت قرأتها، وكنت ظننت أني فهمت معناها! فقد كنت قرأت، فيما قرأت، هذه الفقرة الآتية في «يو بانشاد» - الكتاب الهندي المقدس - التي عبر بها الهنود عن عقيدتهم في وحدة الوجود، وفي أن الكائنات كلها تعبير عن إله واحد قهار، فأضيئت لي اليوم بضوء جديد: «لم يشعر بغبطة بادئ ذي بدء؛ لأن واحدا وحده لا يشعر بغبطة، فتطلب ثانيا، وكان في الحق ذا حجم كبير، حتى ليعدل جسمه رجلا وامرأة تعانقا، ثم شاء لهذه الذات الواحدة أن تنشق نصفين، فنشأ من ثم زوج وزوجة، وهكذا تكون النفس الواحدة كقطعة مبتورة.»
وهذا الفراغ تملؤه الزوجة، وضاجع زوجته وبهذا أنسل البشر، وسألت نفسها الزوجة قائلة: «كيف استطاع مضاجعتي بعد أن أخرجني من نفسه؟! فلأختف» واختفت في صورة البقرة، فانقلب هو ثورا، وزاوجها حقا، وكان بازدواجهما أن تولدت الماشية، فاتخذت لنفسها هيئة الفرس، واتخذ لنفسه هيئة الجواد، ثم أصبحت هي أتانا، فأصبح هو حمارا وزاوجها، وولدت لهما ذوات الحافر، وانقلبت عنزة، فانقلب لها تيسا، وانقلبت نعجة فانقلب لها كبشا وزاوجها حقا، وولدت لهما الماعز والخراف، وهكذا حقا كان خالق كل شيء، مهما تنوعت الذكور والإناث، حتى تبلغ في التدرج أسفله إلى حيث النمال. وقد أدرك هو حقيقة الأمر، قائلا: «حقا إني أنا هذا الخلق نفسه؛ لأني أخرجته من نفسي ... وهكذا نشأ الخلق.»
ولكن «حامد سعيد» لم يقف عند الحيوان وحده في تصوره لوحدة الوجود، فأضاف إليه النبات والمحار والحجر! نعم، فهمت معنى جديدا لوحدة الوجود بعد زيارتي لهذا الفنان العجيب، وآمنت بصدق ما قاله القديس برنار: «إن ما تعلمته من العلوم الدينية ومن الكتاب المقدس قد عرفته من الغابات والحقول؛ فليس لي من معلم سوى أشجار الزان والبلوط ... إن الشجر والحجر يعلمانك أكثر ما تتعلمه من شفتي الحكيم ...» •••
ليس من عجب بعد هذا كله، أن ينقل حامد سعيد رسومه ورسوم تلاميذه يعرضها في لندن، فيكتب فيها «هربرت ريد» - وهو في إنجلترا إمام في عالم الفنون - ما يلي: «لما طلب إلي منذ أسابيع أن أرى نتاج طائفة من الفنانين المصريين؛ ذهبت لا يحدوني شيء من رجاء عظيم، فما أكثر ما خاب رجائي فيما مضى، وأنا الناقد الفني في مثل هذه السن وهذه الخبرة ... فآخر ما كنت أتوقعه، أن أرى أصالة حقيقية ... لكنني ما كدت أبصر رسمين أو ثلاثة من رسوم الفنانين المتصلين بحامد سعيد، حتى أدركت أني إنما أرى فنا أقل ما يقال فيه إنه لا ينساق وراء الأساليب الجارية؛ فهو فن فيه من صدق الفنان ما يلزمك إلزاما أن تقف له معترفا به، وليست كلمة «الصدق» بالكلمة التي تجرى هذه الأيام على اللسان إذا ما أردت وصفا لشيء مما ينتجه الفن السائد، لكنها أول كلمة ترد على ذهني، وأنا ماثل أمام رسوم بلغت مدى بعيدا من الإخلاص - لا أقول إخلاص الفنان للطبيعة نفسها، بل إخلاصه في إخراج مواقع الطبيعة من نفسه.
وإنما سر الأصالة في هذه الرسوم، وما يخلع عليها هذه القوة التي تفردت بها؛ هو الفلسفة الكامنة وراءها.»
ولو قد زار الناقد العظيم «هربرت ريد» حامدا في بيته الذي نأى به عن العمران المدني ليزداد قربا من أحضان الطبيعة؛ لأضاف إلى قوله ذاك عبارة أخرى، هي: وسر الأصالة في هذا الفنان العجيب، وما أضفى عليه روحا عجيبا تفرد به، هو الفلسفة الكامنة وراء حياته التي يحياها.
طوائف تتنافس
في مصر - كما في غيرها - طوائف من الموظفين، فيها مدرسون ومهندسون، وفيها ضباط للأمن وضباط للقتال، وفيها أطباء وقضاة، وفيها غير هؤلاء وأولئك من سائر عباد الله.
لكن الذي في مصر - وليس في غيرها - هو هذا التنافس العجيب القائم بين هذه الطوائف. ولست بحمد الله من «فقراء » الهنود بحيث أصيح بالناس أن كفوا عما أنتم فيه من قتال وتنافس، وسالموا واستسلموا؛ لأني أعلم أن الحياة في صميمها ليست إلا هذا التنافس وذاك القتال، لكن الذي يستوقف نظري ويستثير عجبي هو أن هذا التنافس القائم بين طوائف الموظفين في مصر، قد أقام نفسه على أساس من علم الفلك القديم كما عرفه بطليموس، وكان حقه أن يتماشى مع العلم في تطوره، فيقيم دعائمه على أساس من علم الفلك في صورته الراهنة التي رسمها له كوبرنيق، خشية أن يظن الناس بهؤلاء الموظفين جهالة وإنهم لعالمون، ولو غيروا من وجهة نظرهم وبدلوا من أساسهم؛ لرضيت عنهم أنفسهم، ورضي العلم، ورضي الوطن جميعا.
وقد تقول: وما شأن هذه الدرجات يطلبها المهندسون، فيطلبها في أثرهم المدرسون؟ وما شأن هذه «الأقدار» المالية يظفر بها القضاة، فيلاحقهم بها المدرسون والمهندسون معا؟ وما شأن ضباط القتال يسبقون ضباط الأمن فيما تزدان به أ كتافهم من أنجم وتيجان، فيثور ضباط الأمن لما ظفر به من دونهم ضباط القتال؟ ما شأن هذا كله بعلم الفلك كما تصوره بطليموس أو كوبرنيق؟ هذه الطوائف المتنافسة جميعا تمشي ها هنا على الأرض «في غير مرح». وأما هذان العالمان فكانا يسبحان في السماء صلفا بين الكواكب والأفلاك، فأين الشبه بينهما وبين هؤلاء؟
Halaman tidak diketahui