كيف يخفى على عين الرائي اتصال الجنين بأمه وهو بعد في أحشائها قطعة منها تحييه بدمها وتغذيه بغذائها تأكل له وتتنفس له وتمرض له؟! ثم كيف يخفى على عين الرائي اتصال الوليد بأمه وقد فصل عنها وأصبح كائنا عضويا قائما بذاته، لكنه لم يزل معتمدا في بقائه عليها، ترضعه حبا، وترعاه حبا، وتفنى في سبيله حبا؟ أفي هذا كله تنازع على البقاء أم تعاون في سبيل البقاء؟
كيف يخفى على عين الرائي منظر الدجاجة تنشر جناحيها لأفراخها، فتقيها بنفسها وتحميها بجسدها، ومنظر الحمامة تضع الحب في مناقير صغارها، ومنظر الطير يسير في الفضاء أسرابا أسرابا، والغنم تلتئم قطعانا؟ أفي هذا كله تنازع على البقاء أم تعاون في سبيله؟!
دلني في هذه الدنيا العريضة على كائن واحد من أي نوع شئت عاش حياته مستقلا بذاته! إنه ليكفي الكائن الحي أن يحتاج إلى أبوين ينسلانه لنقول عنه إنه جاء نتيجة التعاون والتعاطف والحب ... والإنسان بصفة خاصة تراه إذا ما فرغ من مرحلة اعتماده على غيره من الناحية الفسيولوجية قد استبدل بذلك اعتمادا آخر في وسائل عيشه ومقومات حياته؛ فمحال أن تقوم للإنسان قائمة بغير معونة الآخرين.
إن الكاتب الإنجليزي «دي فو» حين أراد أن يعلم إلى أي حد يمكن للفرد أن يعيش بمعزل عن سائر الناس، كتب قصته الشهيرة «روبنسن كروسو» التي جعل فيها «روبنسن» هذا تنقطع به الطريق في جزيرة خالية، فراح يبني لنفسه الكوخ ويطهو لنفسه الطعام ويعد لنفسه الثياب، لكن في هذا مغالطة كبرى؛ لأنها توهم القارئ أن روبنسن، استطاع فعلا - ولو إلى حين - أن يعيش بغير معونة الآخرين، ناسيا أنه حين انقطعت به الطريق في الجزيرة كان قد امتلأ رأسه بأفكار وذكريات استمدها من المجتمع الذي كان يعيش بين ظهرانيه قبل أن يعتزل ... وعلى كل حال فقد اهتدى «دى فو» بسلامة تفكيره إلى خاتمة جميلة يختم بها قصته؛ إذ جعل «روبنسن» يسعى إلى العودة إلى بلاده، ولم يكد يرى سفينة على بعد حتى لوح لها، فعرجت عليه وأقلته؛ مما يعني أن الفرد مصيره إلى المجتمع أولا وآخرا. وإذا قلنا «المجتمع» فقد قلنا التعاون؛ لأن قوائم المجتمع بغير تعاون تندك بين عشية وضحاها.
على أننا لم نعد نحيا في عصر التخمين والضرب في مجاهل الفروض النظرية الخيالية. لم نعد نعيش اليوم في عصر تكون فيه الكلمة للأديب وخياله، إنما عصرنا عصر التجارب العلمية، والكلمة الفصل فيه أصبحت للعالم في معمله. فإذا أردنا أن نعلم هل يستطيع الكائن الفرد أن يحيا حياته سليمة قوية بغير معاونة زملائه له أو لا يستطيع؛ فلا تكون وسيلة ذلك أن يكتب كاتب مثل «دى فو» قصة «روبنسن كروسو»؛ ليرسل خياله فيما يمكن أن يقع لرجل يعيش وحده بعيدا عن الناس، بل لا تكون وسيلة ذلك أن يجلس فيلسوف جلسة أرسطو، ويضع سبابته على جبهته ليتأمل هل الإنسان حيوان اجتماعي بطبعه وفطرته أو أن اجتماعه بغيره عادة مكتسبة ونظام موضوع، كان يمكن أن يكون أو ألا يكون.
لا، لم نعد نعيش في عصر يسوده تأمل الفيلسوف ولا خيال الأديب، لكننا نعيش في عصر العلماء والمعامل، وأصبحت الكلمة للمعامل وحدها، وللأنابيب والمخابير وحدها.
وهذا هو عالم يخضع المشكلة للتجارب العلمية، فإذا التجارب ناطقة بأن عزلة الفرد عن أبناء نوعه فيها القضاء عليه، وبأن تعاون الفرد مع أبناء نوعه أمر محتوم لبقائه. وإنما أردت بذلك العالم «أولي» في كتاب له عنوانه «جماعات الحيوان»، بين فيه بمنطق العلم التجريبي، كيف تزداد قدرة الكائن الحي على البقاء كلما ازداد حوله عدد الأفراد من نوعه، وكيف تقل قدرته على البقاء من الناحية البيولوجية كلما قل عدد هؤلاء الأفراد أو اعتزل.
فالحيوان إذا عزل عن زملائه - هكذا دلت التجربة العلمية التي أجراها «أولي»- حيل بينه وبين النمو السوي السليم، أو أصاب جثمانه تلف، أو هلك. بينما الحيوان الذي يسمح له بالعيش بين أفراد نوعه يكبر حجما وتسرع استجاباته لمثيرات البيئة، وتلتئم جروحه في وقت أقصر، ويتغلب على صدمات لا يتغلب عليها الحيوان المعتزل.
مثال ذلك: جاء العالم في تجاربه بفريق من الدود، وسلط عليه أشعة فوق البنفسجية وهو مجتمع، ثم سلط نفس الأشعة على الديدان منفردة، فوجد أن الدودة أسرع إلى التحلل والفناء في انفرادها عنها في اجتماعها مع زميلاتها. وأعاد عالمنا التجربة بأشكال مختلفة، فسلط الأشعة القاتلة على مجموعة الديدان، ثم رفع عنها الأشعة وترك الديدان مجتمعة؛ ليرى بعد كم دقيقة تموت، وأعاد نفس التجربة فسلط الأشعة القاتلة عليها، ثم رفعها عنها وفرق الديدان بعضها عن بعض بحيث تحيا كل منها في عزلة عن زميلاتها، ووقف يرقب ليرى بعد كم دقيقة تموت؛ فوجد أن الديدان في هذه الحالة الثانية تموت أسرع جدا من الديدان في الحالة الأولى.
ومن تجاربه أيضا أنه وضع مجموعات من السمك الذهبي عشرات عشرات في سائل قمين أن يقضي على حياته. ووضع أفردا من السمك نفسه في السائل نفسه، فوجد أن السمك وهو مجموعة يستطيع البقاء في السائل المميت مدة أطول جدا مما تستطيع تلك السمكة، وهي بمعزل عن أخواتها. وأعاد التجربة عينها في صور مختلفة، فجعل يضبط الكمية اللازمة من هذا السائل لقتل السمكة وهي منفردة، ثم يضع كميات مساوية من السائل لأسماك مجتمعة فلا تموت، ومعنى ذلك أن ما يكفي لفناء الفرد وهو معتزل؛ لا يكفي لفنائه وهو عضو في جماعة.
Halaman tidak diketahui