خذ هذه المشكلة التي ملأت ألوف الألوف من صفحات الكتب والصحف: أيهما أقدر على كذا وكذا: الرجل أم المرأة؟ ... هذا سؤال كثيرا ما يسأل، وكثيرا ما يندفع المسئول في جوابه قائلا: الرجل لأنه كيت وكيت؛ أو المرأة لأنها تتصف بهذا أو بذاك. ولو سأل هذا المجيب بدوره: أي رجل تريد وأي امرأة؟ لألقى بذلك ضوءا قويا على طريق الجواب الصحيح. لو قلنا مثلا: أيهما أقدر على البحث العلمي: الرجل أم المرأة؟ ثم تنبه المسئول إلى ضرورة التفكير في أفراد بدل التعميم الذي يؤدي إلى الضلال؛ لقال في غير مشقة ولا عسر: لو كانت المرأة هي مدام كوري، ولو كان الرجل هو هذا الحوذي؛ كانت مدام كوري أقدر على البحث العلمي من هذا الحوذي. أما إن كانت المرأة هي خادمتنا في المنزل، وكان الرجل هو مسيو كوري؛ كان الرجل في هذه الحالة أقدر من المرأة ... وهكذا قل في كل سؤال تلقيه جزافا على الرجل والمرأة؛ فالأمر مرهون بأفراد جزئية في ظروف معلومة محدودة.
وخذ أيضا هذه الموازنة التي لا تكاد تذكر على مسمع مني حتى يضطرب كياني كله ولا أعود مالكا لزمام نفسي، وأعني بها الموازنة بين ما يسمونه شرقا وما يسمونه غربا؛ فقد تسمع القائل يقول في غير تحرج ولا قلق: أيهما خير من زميله الشرق أم الغرب؟! وذلك الشرق وهذا الغرب فيهما ملايين البشر! ولو جرينا في هذا السؤال كذلك على المنهج المقترح، فسألنا بدورنا: من ذا تريد من رجال الشرق ومن ذا تعني من رجال الغرب؟ لانحصر الكلام فيما يؤدي حتما إلى جواب مفيد سريع؛ لأني قد لا يصعب علي أن أوازن بين فلان الإنجليزي وفلان المصري ما دمت أعرفهما. لا، بل لا يكفي أن أحدد شخصين لتتم الموازنة على النحو النافع، بل ينبغي أن أمضي في التحديد والتجزئة فأقول: إن فلانا الإنجليزي خير من فلان المصري في كتابة القصة، لكن فلانا المصري خير من فلان الإنجليزي في ركوب الدراجة.
ولعلي بعد ذلك قريب إلى عقلك إذا ما زعمت لك أن ما يقوله القائلون عن «روحانية الشرق» و«مادية الغرب» كلام يستحيل أن يثبت لحظة واحدة أمام العقل الناقد البصير؛ لأن من أبناء الشرق من ينغمس إلى أذنيه في زراعته أو صناعته أو تجارته، وهذه مادية واضحة. بل قليلون هم جدا من أبناء الشرق «الروحاني» من لا ينغمسون إلى آذانهم في كسب عيشهم، وكسب العيش بالطبع مادي صريح في ماديته، ومن أبناء الغرب من ينفضون عن أنفسهم شواغل العيش ليفنوا من أجل فكرة أو عقيدة. ولا أحسب الذين يفنون من أجل أفكارهم وعقائدهم إلا ممعنين في «الروحانية»، بل إني لأستحلف قارئي الكريم أن يهدأ لي لحظة واحدة سريعة عابرة؛ ليفكر فيها كم من أهل «الغرب» يعيشون ويموتون في معاملهم أو في رحلاتهم الكشفية! وكم من أهل الشرق يصنعون ذلك! وإنما وضعت كلمتي «الغرب» و«الشرق» بين أقواس؛ لأنهما في الحق كلمتان لا معنى لهما إلا عند من يريد أن ينزلق في التعميم الفاسد، وإلا فحدثني: أين الخط الفاصل الذي يكون شرقه شرقا وغربه غربا؟
وإذا شئت مثلا آخر يبين لك كيف يضل الإنسان في أحكامه إذا عمم ، وكيف يهتدي سواء السبيل إذا خصص؛ فانظر فيما يسمونه متعة عقلية ومتعة جسدية. والأولى عندهم أفضل وأشرف وأسمى من الثانية، لكنك لو سألت عند الموازنة بين هذين النوعين من المتعة: أية متعة عقلية تريد وأية متعة جسدية؟ إذن لرأيت من متعات العقل ما هو دنيء مرذول، ومن متعات الجسد ما هو رفيع شريف. أوليس الحقد وحب الانتقام والتعصب وشهوة السيطرة على عباد الله من متعة العقل؟ ثم أليس الطعام المعتدل من متعة الجسد؟ فأيهما عندك أشرف: أن يأكل الرجل برتقالة أم أن يثير حربا دينية أو مذهبية تفنى فيها ألوف الناس؟!
الفرق بين المرأة العجوز المخرفة حين تصف للناس «وصفة» علاجية وبين الطبيب حين يصف لمريضه دواء؛ هو هذا: المرأة العجوز الجاهلة تعمم بغير نظر إلى جزئيات الموقف وتفصيلاته؛ فقد شهدت مرة أن «وصفة» معينة عالجت مريضا؛ فراحت تعمم تلك الوصفة في كل المواقف الشبيهة دون اعتبار منها لما قد يكون بين تلك المواقف الشبيهة في الظاهر من أوجه الخلاف. وأما الطبيب العالم؛ فهو لا يكتفي باسم المرض ليصف العلاج، بل لا بد أن يرى هذا المرض متمثلا في «المريض» الفرد المعين؛ ليبني حكمه على جزئية أمامه، منفردة في تفصيلاتها، لا على شيء عام مشترك بين الناس أجمعين.
ولا إخال القارئ إلا سائلا: ألا تريد أن تعترف بإمكان الحكم بصفة عامة، وإذن فماذا تكون القوانين العلمية كلها إن لم تكن أحكاما عامة؟ إني إذ أقول إن الماء يغلي في درجة مائة - مثلا - فقولي منصب على كل ماء. وهذا تعميم لا ضرورة فيه لسؤال يفصل جزئيات الماء المراد ... وجوابي على ذلك هو أنه حتى القوانين العلمية تكون مشروطة بشروط؛ فالماء لا يغلي على درجة مائة إلا إذا كان تحت ضغط جوي معين ... وعلى كل حال فالتعميم يهون خطره إذا استقيناه من جزئيات درسناها. أما أن نرسل القول إرسالا بغير ضابط من التفكير في الجزئيات؛ فطريق لا تؤدي بنا إلى صواب الحكم إلا مصادفة.
التفكير النظري والتطبيق
للإنجليز براعة في الفكاهة، أكاد لا أجد أمة أخرى تلحقهم في ميدانها؛ فالفكاهة في أدبهم ليس لها نظير في آداب العالم كلها. وهي فكاهة خفيفة أقرب ما تكون إلى الابتسامة اللطيفة إذا كانت الفكاهة عند غيرهم تقاس إلى القهقهة العالية. وهم يمزجون فكاهتهم هذه في جدهم؛ فكثيرا ما يعمد الخطيب السياسي إلى تخفيف جد الموضوع الذي يخطب فيه بملح ونكات ينثرها في غضون حديثه هنا وهناك. وإذا أقاموا حفلا للتكريم - مثلا - فيكاد يستحيل على المتكلم في مثل هذا الحفل ألا يجعل كلمته كلها أقرب إلى الفكاهة المستمرة، حتى إن قصد إلى الجد في الحديث.
بل إن ميلهم هذا إلى الفكاهة لا يبرحهم حتى في المحاضرات العلمية التي قد توحي بطبعها إلى عبوس المحاضر وتجهمه. وإني لأذكر بهذه المناسبة موقفا لطيفا لأستاذ في علم النفس كان يحاضرنا في جامعة لندن، وكان الموضوع الذي يحاضر فيه هو نظرية فرويد في التحليل النفسي. فبعد أن شرح الرجل بعض معالم هذه النظرية، وبين كيف يحاول أتباعها أن يصلوا بالتحليل إلى سبب نفسي لكل شيء مما يحدث في سلوك الإنسان، وإن خاله الإنسان مصادفة عارضة، قال: على أنني أحب ألا تبالغوا في تطبيق هذا الرأي. وأضاف إلى قوله هذا مثلا من حياته الخاصة، فحكى ما يأتي: لاحظت حينا من أيامي الماضية أنني أفقد أشياء كثيرة؛ فأضع المفاتيح في جيوبي، ثم لا أجدها، وأضع النقود فيها حتى إذا ما هممت بدفع أجر للسيارة أو ثمن لفنجان القهوة؛ لم أجد نقودي التي وضعتها واثقا مما فعلت. فقلت لنفسي: أنت تعلم شيئا من التحليل النفسي؛ فلماذا لا تفكر في سبب من نفسك لهذه الظاهرة الغريبة التي انتابتك هذه الأيام؟ وجلست إلى مكتبي ساعات وساعات، أسجل أحلامي وأحللها ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وأضع لنفسي الاختبارات وأنتزع النتائج ... وبينا أنا في غمرة من هذا البحث العلمي الذي أجريته على نفسي لأعلم السبب الدفين في اللاشعور، منذ الطفولة الأولى، الذي يستلزم ضياع مفاتيحي ونقودي هذه الأيام؛ إذا بي ألحظ أن جيوبي فيها خروق! فكففت عن بحثي وتحليلي وتعليلي ... لأن سبب الظاهرة الذي أبحث عنه بين أوراقي، كان أقرب إلي من حبل الوريد.
هذا مثل جيد جدا - على ما فيه من فكاهة حلوة - لما أردت أن أقوله؛ فكثيرا ما تأخذنا الحماسة لنظرية علمية فنطبقها على كل شيء كأنما هي مفتاح الغيب المجهول كله، أو كأنها لعبة جديدة صادفت أطفالا أغرارا ففرحوا بها، وجعلوها دنياهم بأسرها حينا، حتى يملوها، أو تجيئهم لعبة غيرها.
Halaman tidak diketahui