لا يمنع عنده مانع أن يذهب إلى مقاول يقاوله في بناء بيت مساحته كذا وشكله هكذا، دون أن يكون في كيسه من المال ما يكفي لبناء عش من أعشاش الطير أو بيت من بيوت النمل، ولكنه يفعل ذلك إن طاف برأسه مثل هذا الحلم الجميل، وليس من ضر على أحد إن لم يكن بناء.
وأنت عدو من أعدائه إذا عرفت أنه بصدد مشروع فسألته: ومن أين لك المال؟ ذلك لأنه يكره العد والحساب، وله حجة في ذلك ظريفة طريفة، وهي أنه قد عاش ما عاش من دهره لم يحسب ولم يعد، وترك أموره تجرى «بالبركة» فلم يمت من جوع أو مرض. وليست أعوامه الباقية في الحياة بأطول من أعوامه الماضية حتى يحسب لها الحساب.
وهكذا ترك «خالد» زمام أمره لعواطف قلبه.
وأصابت العلة هذا القلب الفياض بعواطفه، الجياش بدوافعه، فلم يعد يقوى على الحياة الزاخرة بالحركة السريعة والتقلب المفاجئ، حتى لكأن هذا القلب قد قطعت نياطه كما يقولون. يلهث إذا مشى الهوينا وقد كان الجري لا يكفيه. غير أن الطب قد بلغ في معالجة القلوب مبلغا بعيدا، فما أهون أن يوضع قلب سليم مكان قلب مريض، فاستبدل خالد عند الطبيب قلبا بقلب.
لكن الطبيب حين يضع قلبا مكان قلب؛ لا يعبأ بما تحتويه هذه القلوب من مشاعر وعواطف، فهو يريد أن يستبدل بعضلة ضعيفة عضلة قوية وكفى. أما هل يعمر هذا القلب الجديد ما كان يعمر القلب القديم من عواطف، فأمر لا يعنيه في قليل أو كثير.
وكان أن حمل خالد قلبا جديدا، وخرج من عند الطبيب لا يدري أنه قد أصبح في الحق إنسانا آخر؛ لأنه حمل الآن قلبا يختلف مكنونه عن مكنون قلبه القديم.
ذهب إلى داره، وجلس إلى مكتبه، وفتح درجا من أدراجه، فإذا عيناه تقعان على عنوان الكتاب الذي كان قد طلب إلى الخطاط أن يكتبه له ويحفره، وأخذ يقلبه بين أصابعه متعجبا: لماذا يكون هذا قبل أن يكون الكتاب؟ وما هو إلا أن ألقى «بالكليشيه» في سلة المهملات؛ لأنه عرف الآن أن الكتاب لن يكتب. وجاءه المقاول يقاوله في أمر البيت الذي يريد بناءه لنفسه سكنا، فلم يستمرئ أن ينطق في الموضوع بكلمة واحدة إلا إذا تهيأت له الأسباب أولا؛ فما هو اليوم بالرجل الذي كان. وبدأت تدب بينه وبين زوجته ضروب من الخلاف لم تكن تقع بينهما فيما مضى. فهو الآن يعد ويحسب قبل أن يذهب إلى المصيف، وكان فيما مضى يذهب إلى المصيف بغير عد ولا حساب. وهو الآن يفصل ميزانية داره تفصيلا، وكان فيما مضى ينفق ما في الجيب معلقا رجاءه بما قدر له في الغيب.
لم تعد حياة خالد تشيع في نفسه لذة ونشوة كما كانت تشيع فيه حياته الأولى اللذة والنشوة في عهد قلبه القديم؛ فليس في القلب الجديد من دخان العواطف ما يعميه عن الحقائق الواقعة، والنظر بالعين المجردة إلى الحقائق العارية عن تزويق الخيال فيه مرارة وألم، ولكنه آمن عاقبة وأسلم ختاما وأخصب نتاجا.
كان «خالد» في عهد قلبه القديم طفلا يلهو بأحلامه لهوا لذيذا جميلا، فأصبح تحت سيطرة القلب الجديد رجلا يواجه الواقع المرير المؤلم في شجاعة الرجال. إن أحلام القلب شهية ممتعة لذيذة؛ لأننا نطبخ لأنفسنا فيها ما نشتهي، فننقص من ملحها وفلفلها كما نشاء ونهوى، ونزيد من لحمها وأرزها كما نشاء ونهوى. وأما الواقع فعلقم مرير في أكثر الأحيان؛ لأن الطعام يقدم لنا معدا مطبوخا على مشيئة طاه سوانا، لكن الأحلام على لذتها من طبيعة الطفولة الغريرة، والواقع على مرارته من مميزات الرجولة المكتملة الناضجة.
النضج العقلي معناه إدراك الواقع والاعتراف به، والعمل بمقتضاه، فيجيء العمل منتجا بقدر ما يسع طبائع الأشياء أن تنتج. والعقل النيئ الفج هو الذي لا يطيق النظر إلى الواقع كما هو، فيغمض عينيه ويرسل للأحلام عنانها. ولا غرابة بعد ذلك أن جاء الشعر قبل النثر في تاريخ الأدب، ما دامت مرحلة الشعر الحالم أسبق من مرحلة النثر الواقعي في تاريخ الحياة، حياة الأفراد وحياة الأمم على السواء.
Halaman tidak diketahui