فقال في تبجح: وهل تحتاجين إلى ثمنها؟ - كل إنسان أولى بماله. - إلا الزوج والزوجة فمالهما واحد. - الإسلام لم يقل هذا. - ولكن العرف بين الناس والحب بين الزوجين يقولانه. - تكتب لي ورقة أن البيع صوري. - أكتب عشرين ورقة. - لا بأس، أنا كنت عارفة منذ تكلمت عن هذه الأسهم أن عينك عليها، وأنك لن تفلتها من يدك أبدا.
ومن هذا الحديث ومن كثير أمثاله وضح لبهجت أن زوجته تفهمه تمام الفهم، وأنها إذا كانت تطلق يده في أملاكها، فما هذا إلا لأنها تعلم أنه سيأخذ ما يريد، ولئن يسرقها زوجها خير من أن يسرقها الغريب.
مر على زواج بهجت وكريمة بضعة أشهر أوشكت أن تكتمل عاما.
وبدأت كريمة تشعر بتغير جسماني دهشت له كل الدهشة، حتى لا تكاد تصدق أن ما تحس به أمر واقع، وليس وهما أو تخيلا ولا نوعا من الرغبة التي تئوي تجسيد الآمال البعيدة، لتصبح حقيقة ماثلة لا مراء فيها ولا شك يدور حولها. وحين ذهبت إلى الطبيب تأكد ما توقعت. إنها حامل حملا مؤكدا. وانفجر الفرح في نفس كريمة معربدا صاخبا أنساها كل ما مر بحياتها من آلام وأحزان، بل كاد يهون عليها ما تشهده من طمع زوجها فيها. وكان من الطبيعي أن يفرح بهجت بهذا النبأ، وهل هناك أقوى من البنوة آصرة توثيق ارتباطه بزوجته؟ كما فرحت أمه التي لم تعرف الفرح منذ نكبة زوجها المالية، بل إن الحاج سعيد نفسه علت شفتيه تلك الابتسامة التي توارت عن نفسه ووجهه، وإن بدت اليوم واهنة هزيلة متهافتة ضامرة، فهو منذ خسارته الفادحة لم يفق من بلواه، وتجرأت الحاجة عايدة أن تقول له: يا حاج سعيد، افرح فإنك خاصمت الفرح، بل خاصمت الدنيا كلها منذ زمان بعيد. - ولن أصالحه أبدا. - سيأتي لك حفيد من ابنك البكر. - وماذا أستطيع أن أعطي له إلا الفقر والعوز؟ - عنده ما يكفيه، وهو في غير حاجة إلى مالك. - الشيء الذي يدهشني أنني لم أمت حتى الآن. - أعوذ بالله ... بعد الشر. - وهل هناك شر مما أنا فيه؟ - التجارة مكسب وخسارة. - أنا لست تاجرا، أنا دخلت في ميدان لا شأن لي به، وحسرتي على نفسي أنني كنت مستغنيا عن تلك المخاطرة كل الاستغناء. - وماذا تقول في قدر الله؟ - أنا الذي اخترت. - يا حاج، صل على النبي. إن الإنسان لا يستطيع أن يرد قدره. - ربنا وهب لنا العقل لنختار، وقد أسأت الاختيار وأنا أعاني ما أعانيه؛ لأني أنا نفسي الذي دمرت نفسي. - المهم مبروك علينا حفيدنا. - يا عالم، هل سأراه أم أنني لن أراه؟
وكأنما كان الحاج سعيد مطلعا على الغيب وهو يقول كلمته العفوية هذه؛ فقبل أن تلد كريمة كان الحاج سعيد قد انتقل إلى رحمة الله.
ولم تكن وفاته ذات أثر إلا على زوجته الحاجة عايدة، التي فقدت فيه رفيق العمر وأبا ولديها وأنيس وحدتها، ولو أن أنسه انقطع منذ هذا الذي حدث.
أقام بهجت ومجدي مأتما وقورا لأبيهما، واستقبلا العزاء فيه بالبلدة، وانقضى اليوم ومضى الابنان كل في سبيل. العجيب أن بهجت لم يطالب أخاه بريع الفدادين؛ أولا لأن هذا الريع أصبح لا يمثل له قيمة مع ما هو فيه سعة وبحبوحة؛ وثانيا لأنه قدر أن مجدي سيقوم بشأن أمه؛ وثالثا لأنه يعلم أنه قادر بمهارته في الزراعة والحسابات الزراعية أن يجعله لا يصيب من أرضه مليما، فقال في نفسه: أجعلها جميلا بدلا من أن أرغم عليها.
الفصل الثالث عشر
أقام وحيد وسعدية ومعهما ولداهما فريد وصبحي في شقة فاخرة في برلين الشرقية، وكان الاعتماد في الإنفاق على ثروة سعدية؛ فمرتب وحيد لا يستطيع وحده أن يواجه نفقات المسكن الأنيق والمعيشة الميسرة، وأيضا مرتب المربية التي سرعان ما عثرا عليها، وكانت جميلة غاية الجمال لم تدرك العشرين من عمرها بعد، وكان هذا الجمال هو العيب الوحيد الذي تضيق به سعدية في حاضنة ولديها كريستين.
وكانت سعدية على حق في توجسها من جمال كريستين الباهر؛ فسرعان ما وقع وحيد في حبها، ولم يكن عسيرا عليه أن يواعدها، وتواعدا؛ فقد كان قد تعلم الألمانية وأجادها، كما كان يجيد الفرنسية والإنجليزية؛ فهو منذ باكر حياته كان يعد نفسه لأن يعمل بوزارة الخارجية، وكان وحيد شابا جميل السمت طويل القامة، ممشوق القوام يجيد إدارة الحديث، وكانت كريستين هيفاء القوام، يصدق عليها قول الشاعر:
Halaman tidak diketahui