كان من الطبيعي أن يتولى بهجت شئون التركة جميعا؛ فقد كان الباشا يعلم أنه يعمل مع ممدوح، فهو إذن على خبر بأمور ثروته، كما أن الباشا كان من المفروض أن يجعل سكرتيره هو المشرف على مصالح ابنته. وهكذا اجتمعت في بهجت الصفتان من قربه للباشا ومن عمله مع ممدوح. وقد أطلقت له كريمة الحرية المطلقة في أن يتحدث باسمها مع الورثة الآخرين؛ فممدوح انتقل إلى رحاب الله في سن باكرة، ولم يكن يفكر في الموت مطلقا، وإلا لتحرى أن يخص زوجته الحبيبة بنصيب وافر من ثروته، وكريمة نفسها لم تكن تفكر في هذا الأمر مطلقا، ولم يخطر بذهنها لحظة أن تطلب إليه شيئا يتصل بالثروة.
وهكذا توزعت الثروة على أقارب ممدوح، ولم يكن لكريمة إلا حق الربع في هذه الثروة العريضة. وقد جاهد بهجت أن تتخارج كريمة ملكية البيت الذي كانت تعيش فيه مع زوجها إلى جانب عمارة بشارع قصر النيل وخمسين فدانا من الأرض الجيدة.
وحين عرف الباشا بما توصل إليه بهجت أقره ونصح ابنته. - اقبلي هذا الذي يقول بهجت. - أمرك يا بابا، والله أنا لا يهمني شيء أكثر من الذي فقدته. - لا بد يا ابنتي أن نرضى بحكم الله سبحانه. المهم أنا تركتك في بيتك طوال هذه الشهور، ناظرا أن يكون البيت من نصيبك، وخشيت أن تتركيه فيغتاله الورثة، خاصة وأنا عرفت أنهم كانوا في غاية الجشع. - سامحهم الله يا بابا. - أما جاء الوقت بعد أن تنتهي إجراءات تملكك للبيت أن تنتقلي لتعيشي معنا؟! - يا بابا، أنت تعرف أنني لا أتأخر عن تنفيذ أي أمر لك، ولكن إن أحببت أن ترضيني فدعني في بيتي. - وحدك في هذا البيت كله؟! - معي الأيام والذكريات والحنان والتواد الذي كان بيني وبين المرحوم، ومعي أيضا حريتي أن أستقبل من أشاء وأرفض لقاء من أشاء، وأنت تعرف ماما صاحباتها كثيرات، والبيت عندك لا يخلو من ضيفاتها، فإن أردت أن ترضيني يا بابا فاتركني في بيتي، وأنا لن أتأخر أبدا عن زياراتكم. - والله يا بنتي، أنا في الحقيقة أكاد أكون مقتنعا بما تقولين. البيت عندنا سوق فعلا، ولولا أنني في عملي في الصباح ومع أصدقائي في المساء خارج البيت، لما عرفت كيف كنت سأطيق العيش هذه العيشة التي تفرضها علينا أمك.
الفصل الثامن
ربح الحاج سعيد من بورصة الأسهم ربحا واسعا، وتماوجت حوله ألوان السعادة والفرح، فقد كان المال - كما شهدت - هو كل ما يعنيه في الحياة.
قالت له الحاجة عايدة حين رأت سعادته الغامرة بما تحقق له من أرباح: الآن أحسن وقت أن تكتب لبهجت ومجدي أرضا . - أنا في حاجة إلى كل الريع، بل قد أضطر إلى بيع بضعة أفدنة؛ فإن ما تحققه البورصة في يوم لا تحققه الأرض في سنة كاملة. - لا يا حاج، إلا الأرض، أنا أعلم أن عندك أموالا كافية للبورصة. - كلما زادت الأسهم زادت الأرباح. - هذا شأنك، ولكن هذا لا يمنع أن تسجل لكل ولد بضعة أفدنة. - بشرط. - أي شرط؟ - أن تظل الأرض في حيازتي، ولا يستوليا على ريعها. - وماله، أنت تعرف أنهما لا يعصيان لك أمرا. - إن كان الأمر كذلك فلا بأس. - وهل خالف أحد منهما لك أمرا؟ إن بهجت لم يدخل إلى كلية الحقوق إلا إرضاء لك، ومجدي أنت تعرف مقدار طاعته لك وحرصه على إرضائك. - أكتب لهما، إن شاء الله. - كم فدانا؟ - ماذا ترين أنت؟ - عشرة أفدنة لكل منهما. - والله لا أرد لك كلمة. - أطال الله عمرك.
وفعلا سجل الحاج سعيد عشرة أفدنة لكل من ولديه، وسلم مجدي العقد الخاص به، وانتهز الفرصة وسافر إلى بهجت، وحين ذهب إلى منزله لم يجده، ولكنه كان يحتفظ بمفتاح للشقة فدخل المنزل، وانتظر بهجت حتى عاد.
وفرح بهجت بمجيء أبيه. - لماذا لم تخبرني بالتليفون حتى أنتظرك؟ - أردت أن تفاجأ بي. - ونعم المفاجأة! - وإليك مفاجأة أخرى.
وأخرج العقد المسجل من جيبه وأعطاه له ... ونظر بهجت في العقد ورفع رأسه إلى أبيه. - أطال الله عمرك، ولكن ما المناسبة؟ إنك لا تبخل علي أو على أخي بشيء. - والدتك أصرت. - أنا أتوقع أن تكون لنا الأرض بالاسم فقط، ويظل ريعها لك طبعا. - أنت ترى هذا؟ - هذا هو الطبيعي. - وهو كذلك. - إذن، فما معنى كتابتك هذه الأرض لنا؟ - أتريد الحقيقة؟ - نعم، وخاصة وأنا أعرف أنك تضارب الآن في البورصة، وتحتاج إلى كل المال السائل. - وأين سيذهب المال السائل؟ إن تسجيل الأرض لك مجرد إجراء وقائي. - لا قدر الله. - فهمت قصدي ... وأيضا تقول أمك إن كتابة الأرض لك ولأخيك يجعل التي يختارها أحدكما مطمئنة أن لزوجها أرضا خاصة به. - البركة فيك دائما على كل حال. - صحيح أنني أكسب الآن مبالغ طائلة، ولكن البورصة ليس لها كبير، فإذا خسرت الأرض التي باسمي تبقى الأرض التي باسمكما. - أرجو ألا تحتاج إليها. وعلى كل حال أنت مطمئن أن الأرض عندي وعند مجدي في الحفظ والصون. - أنا واثق. ما أخبارك؟ - الحمد لله، ولو أنه من المتوقع أن يخرج كمال باشا من الوزارة. - وهل سيؤثر هذا عليك؟ - من المؤكد أنني لن أصبح سكرتير الوزير الجديد. - متى تتوقع هذا؟ - الله أعلم ... السياسة ليس لها مواعيد.
الفصل التاسع
Halaman tidak diketahui