فنقول إن الحق هو القسم الأخير، وذلك أنه من المحال أن نقول إن هذه الصورة موجودة فى النفس بالفعل التام ولا تعقلها بالفعل التام إذ ليس معنى أنها تعقلها إلا أن الصورة موجودة فيها، ومحال أن يكون البدن لها خزانة، ومحال أن تكون ذاتها خزانتها إذ ليس كونها خزانة لها إلا أن تلك الصورة معقولة موجودة فيها، وبهذا تعقلها، وليس كذلك الذكر والمصورة فإن إدراك هذه الصورة ليس لها بل حفظها فقط، وإنما إدراكها لقوة أخرى، وليس وجود الصور المذكورة والمصورة فى شىء هو إدراك كما ليس وجود الصور المحسوسة فى شىء هو حس، ولذلك ليست الأجسام - وفيها صور المحسوسات - بمدركة، بل الإدراك يحتاج أن يكون لما من شأنه أن يتطبع بتلك الصور تطبعا ما بما هو قوة مدركة، وأما الذكر والمصورة فإنما تنطبع فيها الصور بما هى آلة، ولها جسم يحفظ تلك الصور قريبا من حامل القوة الدراكة وهى الوهم، حتى ينظر إليها متى شاء كما يحفظ الصور المحسوسة قريبا من الحس ليتأملها الحس متى شاء، فهذا التأويل يحتمله الذكر والمصورة ولا تحتمله النفس، فإن وجود الصورة المعقولة فى النفس هو نفس إدراكها لها، وأيضا سنبين بعد فى الحكمة الأولى أن هذه الصورة لا تقوم منفردة، فبقى أن يكون القسم الصحيح هو القسم الأخير، ويكون التعلم طلب الاستعداد التام للاتصال به حتى يكون منه العقل الذى هو البسيط، فتفيض منه الصور مفصلة فى النفس بتوسط الفكرة، فيكون الاستعداد قبل التعلم ناقصا والاستعداد بعد التعلم تاما، فإذا تعلم يكون من شأنه أنه إذا خطر باله ما يتصل بالمعقول المطلوب وأقبلت النفس على جهة النظر - وجهة النظر هو الرجوع إلى المبدأ الواهب للعقل - اتصل به، ففاضت منه قوة العقل المجرد الذى يتبعه فيضان التفصيل، وإذا أعرض عنه عادت فصارت تلك الصورة بالقوة ولكن قوة قريبة جدا من الفعل، فيكون التعلم الأول كمعالجة العين، فإذا صارت العين صحيحة فمتى شاءت نظرت إلى الشىء الذى منه تأخذ صورة ما، وإذا أعرضت عن ذلك الشىء صار ذلك بالقوة القريبة من الفعل، وما دامت النفس البشرية العامية فى البدن فإنه ممتنع عليها أن تقبل العقل الفعال دفعة، بل يكون حالها ما قلنا، وإذا قيل إن فلانا عالم بالمعقولات فمعناه أنه بحيث كلما شاء أحضر صورته فى ذهن نفسه، ومعنى هذا أنه كلما شاء كان له أن يتصل بالعقل الفعال اتصالا يتصور فيه منه ذلك المعقول ليس أن ذلك المعقول حاضر فى ذهنه ومتصور فى عقله بالفعل دائما، ولا كما كان قبل التعلم وتحصيل هذا الضرب من العقل بالفعل، وهو القوة تحصل للنفس أن تعقل بها ما تشاء فإذا شاءت اتصلت وفاض فيها الصورة المعقولة، وتلك الصورة هى العقل المستفاد بالحقيقة، وهذه القوة هى العقل بالفعل فينا من حيث لنا أن نعقل، وأما العقل المستفاد فهو العقل بالفعل من حيث هو كمال، وأما التصور للأمور المتخيلة فهو رجوع من النفس إلى الخزائن للمحسوسات، والأول نظر إلى فوق وهذا نظر إلى أسفل، فإن خلص عن البدن وعوارض البدن فحينئذ يجوز أن يتصل بالعقل الفعال تمام الاتصال، ويلقى هناك الجمال العقلى واللذة السرمدية كما نتكلم عليه فى بابه،
Halaman 248