وقد أوضحنا أن الأنفس إنما حدثت وتكثرت مع تهيوء من الأبدان على أن تهيوء الأبدان يوجب أن يفيض وجود النفس لها من العلل المفارقة، وظهر من ذلك أن هذا لا يكون على سبيل الاتفاق والبخت حتى يكون وجود النفس الحادثة ليس لاستحقاق هذا المزاج نفسا حادثة مدبرة ولكن قد كان حدث نفس واتفق أن وجد معها بدن فتعلق بها، فإن مثل هذا لا يكون علة البتة ذاتية للتكثر بل عسى أن يكون عرضية، وقد عرفنا أن العلل الذاتية هى التى يجب أن تكون أولا، ثم ربما تليها العرضية، فإذا كان كذلك فكل بدن يستحق مع حدوث مزاج مادته حدوث نفس له، وليس بدن يستحقه وبدن لا يستحقه إذ أشخاص الأنواع لا تختلف فى الأمور التى بها تتقوم، وليس يجوز أن يكون بدن إنسانى يستحق نفسا يكمل بها وبدن آخر هو فى حكم مزاجه بالنوع ولا يستحق ذلك، بل إن اتفق كان وإن لم يتفق لم يكن، فإن هذا حينئذ لا يكون من نوعه، فإذا فرضنا أن نفسا تناسختها أبدان - وكل بدن فإنه بذاته يستحق نفسا تحدث له وتتعلق به - فيكون البدن الواحد فيه نفسان معا، ثم العلاقة بين النفس والبدن ليس هو على سبيل الانطباع فيه كما بيناه مرارا بل العلاقة التى بينهما هى علاقة الاشتغال من النفس بالبدن حتى تشعر النفس بذلك البدن وينفعل البدن عن تلك النفس، وكل حيوان فإنه يستشعر نفسه نفسا واحدة هى المصرفة والمدبرة للبدن الذى له، فإن كان هناك نفس أخرى لا يشعر الحيوان بها ولا هى بنفسه ولا تشتغل بالبدن فليست لها علاقة مع البدن، لأن العلاقة لم تكن إلا بهذا النحو، فلا يكون تناسخ بوجه من الوجوه، وبهذا المقدار لمن أراد الاختصار كفاية بعد أن فيه كلاما طويلا،
فصل 5 (فى العقل الفعال فى أنفسنا والعقل المنفعل عن أنفسنا)
Halaman 234