قد فرغنا من تعديل الألفاظ المفردة وأحوالها، ومن تعديد التأليف الخبري الحملي منها. وقصدنا الأول وبالذات في صناعة المنطق هو: معرفة القياسات، والقسم الناظر منها في القياسات البرهانية. ومنفعة ذلك لنا هي، التوصل بهذه الآلة إلى اكتساب العلوم البرهانية. وقصدنا الثاني: معرفة أصناف القياسات الآخرى، فبعضها ينفعنا بالارتياض فيها، والتخلص الىالعلوم البرهانية، كالجدليات، ولها منافع أخرى؛ وبعضها ينفعنا العلم بها في التحرز عنها عند ابتغاء العلوم البرهانية، كالسوفسطائية؛ وبعضها ينفعنا في مصالح المدينة، ونظام المشاركة، كالخطابة والشعر. وجميع هذه كالمشتركة إما بالفعل، وإما بالقوة، في هيئة القياس وصورته. واكثر اختلافها في موادها. والعلم الباحث عن الأمر الكلي مقدم دائما على العلم الباحث عن الأمر الجزئي. ومن لم يعرف القياس المطلق العام لم يمكنه أن يعرف القياس المخصص. فبالحري أن نقدم القول في القياس المطلق. أما بيان اختلاف حال المقاييس في المواد فالاولى أن يؤخر الكلام فيها. وأما ما قيل من أن المقدمات إما أن تكون واجبة فيكون عنها البرهانيات؛ وإما ممكنة أكثرية، فيكون منها الجدليات؛ وإما ممكنة متساوية، فيكون منها الخطابيات؛ وإما ممكنة أقلية، فيكون منها السوفسطائيات؛ وإما ممتنعة، فيكون منها الشعريات؛ فيجب أن لا يتلفت إليه، ولا ينظر بوجه من الوجوه إلى هذه القسمة.
ونعلم أن الواجبات تدخل في البرهان. والممكنات أيضا قد تدخل في البرهان، على النحو الذي سنبين لك عند كلامنا في البرهان. وأما الجدليات فتكون صادقة في الكل، وتكون كاذبة في الكل، فلا يعتبر فيها حالها في نفسها؛ بل الشهرة أو التسليم. والسوفسطائية تكون كاذبة في الكل، وتكون صادقة في الأكثر، فلا يلتفت إلى ذلك، بل لأنها تكون خلاف ما يدعى من أمرها من أولية أو شهرة، فتكون مشبهة بأولى أو مشهور.
والخطابيات يعتبر فيها أن تكون مظنونة ومشهورة في باديء الرأي، وإن لم تكن مشهورة حقيقة، فربما كانت كاذبة مطلقة، وربما كانت صادقة، كما أن الصادقة ربما كانت مشهورة في باديء الرأي، وربما كانت غير مشهورة في باديء الرأي. والشعريات إنما يلتفت فيها إلى أن تكون مخيلة، كانت صادقة أو كاذبة في الكل أو لا في الكل إذا كانت النفس تنفعل عنها انفعالا نحو انقباض أو انبساط، لا لأنها صدقت بشيء منها، بل من جهة حركة تخييلية تعرض لها عندها، كمن إذا سمع قول قائل العسل إنه مرة مقيئة اشمأز عن تناوله، وربما سمع الثناء على جميل كان يعرفه جميلا، أو الذم لقبيح كان يعرفه قبيحا، وكان التصديق لا يحرك منه شيئا؛ فإذا سمع الشعر الموزون هاج تخيله فانبعث نزاعه أو نفوره إلى موجب تخيله كطاعة للتخيل لا للصدق .
Halaman 204