وقد اعتيد أن ينختم هذا الفن من المنطق بشىء ليس للمنطقى من حيث هو منطقى إليه حاجة، وهو أشبه بالمباحث الجدلية. وذلك أنه إذا حمل محمول على موضوع - ولذلك المحمول ضد - فهل إيجاب الضد عليه أشد عنادا أم سلبه المقابل الذى هو نقيضه ؟ مثاله إذا قيل: زيد عادل، فهل قولنا: زيد جائر، أشد عنادا له، أم قولنا: ليس بعادل ؟ وهل الضد لقولنا: كل إنسان عادل، هو قولنا: كل إنسان جائر، أو ما سلف ذكره؛ وهو أنه لا واحد من الناس عادل ؟ فإن هذا شىء قد تشاجر فيه طوائف، والحق فيها أن كونه جائرا أشد عنادا فى طبيعة الأمور لكونه عادلا من كونه ليس بعادل. وأما من حيث التصديق والحكم سواء كان اعتقادا أو لفظا فإن السالب أشد عنادا وأبعد من أن يطابق الموجبة فى شىء من الصدق والكذب. ولما كان هذا النظر من حيث الحكم، والحكم أما قول وإما عقد، والقول تابع للعقد، فلننظر فى هذه المتعاندات من حيث هى معتقدة. فليكن عقد فى خير أنه خير، وعقد فيه أنه ليس بخير، وعقد فيه أنه شر. ولتعلم أن يكون العقد منسوبا إلى ضدين كما نعتقد فى موسى أنه خير وفى فرعون أنه شر، أو إلى متقابلين كالنقيضين كما نعتقد فى موسى أنه خير وفى فرعون أنه ليس بخير، لا يوجب تعاند العقدين، بل يجب أن يكون ذلك فى موضوع واحد حتى يكون العقدان متنافيين. فلنعتبر فى موضوع واحد الحق فيه أنه خير، إذا اعتقد فيه أنه شر، واعتقد فيه أنه ليس بخير، أى الاعتقاديين فى نفسه أشد عنادا ؟ فلو لم يكن الشر ليس بخير ما كان يستحيل اعتقاد أنه خير وأنه شر، ولو كان بدل الشر هو شيئا ما ليس بخير وليس بشر لكان مع ذلك يستحيل اعتقاد أنه خبر وأنه ليس بخير، فإن كثيرا مما ليس بخير ليس بشر. فبين أن العناد فى الاعتقاد الأول ليس لكون المعتقدين متضادين، بل لكون الحكمين متنافيين، وليس التنافى الأول إلا الذى بين الإيجاب والسلب.
قالوا: ومن الدليل على ذلك أيضا أن الشىء الذى هو خير وعدل تصدق عليه إيجابات مثل أنه محمود ومختار، وسلوب مثل أنه ليس بمذموم ولا مكروه، وتكذب عليه إيجابات مثل أنه مكروه ومذموم، وتكذب عليه سلوب مثل أنه ليس بمحمود ولا مختار. وليس حقيقة التضاد متقررة بين كل ما لا يجتمع منها كيف اتفق، فإن الواحد إنما يضاده بالحقيقة واحد، فيجب إذن أن يكون الضد منها ما يعمها. وإنما يعم جميع الإيجابات والسلوب الكاذبة على الخير أنه ليس بخير، فأى إيجاب أو سلب صح عليه أنه ليس بخير كان مباينا، وأما ليس بخير نفسه فإنه مباين بنفسه وإن لم يعتبر له أنه أحد تلك. والشىء الذى لا يحتاج فى أن يكون مباينا إلى غيره والآخر لا يباين دونه فمباينته أقدم، والذى مباينته أقدم فعناده أشد، فالسالبة أشد عنادا، وما هو أشد عنادا فهو الضد، فالسالبة هى الضد.
ويشبه أن لا يكون هذان الفصلان قصد بهما فى التعليم الأول احتجاج ألبتة، ويكون إنما قصد فى الأول منهما أن يشار إلى أن نفس التضاد فى الأمور لا يوجب التضاد فى الاعتقادات، بل يجب أن تكون الأمور متنافية حتى يجوز أن تكون متضادة فى الاعتقادات.وفى الثانى أن يشار إلى أنه ليس أيضا ينافى الاعتقادات وأن لا تجتمع الاعتقادات، دالا على تضادها، فإن هاهنا أمورا لا نهاية لها يصح أن تسلب عن الخير والعادل مثل أنه ليس بطائر وليس بحجر وليس بسماء فيكذب إيجابها، وأمور يصح إثباتها عليه لا نهاية لها مثل أنه أبيض ويقعد ويفعل فيكذب سلب إمكانها. أما الموجودة له فلا يمكن أن تكون بلا نهاية، وأما المسلوبة عنه فبغير نهاية، فلا ينبغى أن ينظر فى كل واحد منها هل عقده مضاد للعقد أنه خير أو غير مضاد له، فانها لا تتناهى.
Halaman 201