173

وأما فى الجزئيات فإن الأمرين فيهما يجريان مجرى واحدا فى الظهور والخفاء. ولكنه قد يعلم مع ذلك أن بين المعنيين خلافا إذا رجع إلى حقيقة المفهوم واستعين فيه باعتبار الكلية. وأما السلب الكلى فليس فى لغة العرب ما يدل بالحقيقة على السلب الممكن العام، بل المتعارف فيها إنما يدل على إمكان سلب العام، ولذلك يشكل أن يقال يمكن أن لا يكون واحد من الناس كاتبا. فلقائل أن يقول إن هذا لا يمكن أن يصدق ألبتة، بل يجب أن توجد الصناعات فى بعض لا محالة. وليس كلامنا فى أن هذا القول حق أو باطل، فليست معرفة هذا من صناعة المنطق، بل غرضنا أن الأمر الذى قد يقع فيه شك ليس هو الأمر الذى لا يقع فيه شك والذى يقع فيه شك هو إمكان سلب الكتابة عن كل واحد واحد. لكنه لا يوجد فى لغة العرب ما يدل على هذا إلا بالإيجاب، كقولهم: كل واحد من الناس يمكن أن لا يكون كاتبا، وأما قولهم: ليس كل إنسان كاتبا، فإن جهة الإمكان لا يمكن أن تدخل فيه إلا على السور حتى يكون معناه يمكن أن لا يكون كل إنسان كاتبا. فيدل على إمكان السور؛ وأما قولنا: بعض الناس يمكن أن لا يكون كاتبا، فإنه قد يساوى من جهة قولنا: يمكن أن لا يكون بعض الناس كاتبا، وقد يخالفه وإن لازمه، حتى يكون الغرض فى أحدهما أن بعض الناس موصوف بإمكان سلب الكتابة عنه، وفى الثانى أنه ممكن إحقاق قول القائل: بعض الناس كاتب. فإذا علمت هذه الأحوال، فيجب إذا نظرت فى حال تلازم هذه القضايا أن تنظر فى حال تلازم هذه القضايا الرباعية التى لها جهات على أنها جهات الربط لا جهات السور وبعد ذلك أيضا فلن تنكشف لنا حقيقة الأمر فيها إلا بعد أن يعلم حال اشتراك واقع فى لفظة الممكن فنقول: إن لفظ الممكن قد كان مستعملا عند الجمهور على معنى، وهو الآن عند الفلاسفة مستعمل على معنى آخر. فكان الجمهور يعنون بالممكن الأمر الذى ليس بممتنع من حيث هو ليس بممتنع، ولا يلتفتون إلى أنه واجب أو غير واجب. ثم عرض أن كانت أمور يصدق أن يقال فيها إنها ممكنة أن تكون وممكنة أن لا تكون، أى ليست ممتنعة أن تكون وليست ممتنعة أن لا تكون، وأمور أخرى يعرض فيها أن تكون ممكنة أن تكون وليست ممكنة أن لا تكون. فلما وجد الخواص بعض الأشياء يجتمع فيها إمكان أن يكون وإمكان أن لا يكون، أعنى الإمكان العامى، خصوا حاله باسم الإمكان، فجعلوا الشىء الذى يصح فيه الإمكانات جميعا أعنى فى السلب والإيجاب مخصوصا باسم الإمكان، وهو الشىء الذى لا ضرورة فيه. فهؤلاء الخواص اتفقوا فيما بينهم واصطلحوا على أن يسموا الأمر الذى لا يمتنع وجوده ولا عدمه ممكنا. فصارت الأشياء عندهم ثلاثة أقسام: ممتنع الوجود، وممتنع العدم، وما لا يمتنع وجوده ولا عدمه؛ وإن شئت قلت ضرورى الوجود، وضرورى العدم، وما ليس بضرورى الوجود والعدم. ومعني الضرورى الدائم ما دام الموصوف به موجود الذات، على ما سنشرح هذا فى موضع آخر بالتحقيق. فالممكن إذا عني به المعنى العامى كان كل شىء إما ممكنا وأما ممتنعا، وكان ما ليس بممكن ممتنعا وما ليس بممتنع ممكنا، ولم يكن هناك قسم آخر. وإذا عنى به المعنى الخاص كان كل شىء إما ممكنا وإما ممتنعا وإما واجبا، ولم يكن مل ليس بممكن ممتنعا، بل ما ليس بممكن ضروريا إما فى الوجود وإما فى العدم. وبعد ذلك فإن الخواص قد انعقد فيما بينهم اصطلاح آخر فجعلوا دلالة الممكن على معنى أخص من هذا المعنى وهو الذى حكمه عندما يتكلم به المتكلم معدوم، لكنه فى المستقبل غير ضرورى الوجود أو غير الوجود فى أى زمان فرض وسيأتيك استقصاء القول فى هذا المعنى فيما يستقبل من الفنون. فيكون الممكن مقولا على معان ثلاثة تترتب بعضها فوق بعض ترتب الأعم فوق الأخص، فيكون قوله على الأعم والأخص باشتراك الاسم، ويكون مقولا على الأخص من جهتين: إحدى الجهتين فيما يخصه، والأخرى من جهة حمل الأعم عليه، وهذا شىء قد علمته فيما سلف. فالمعنى هو العامى وهو أن شيئا حكمه غير ممتنع، وأعنى بالحكم ما حكم فيه من إيجاب أو سلب. والمعنى الخاص هو أن حكمه غير ضرورى والمعنى الثالث أن حكمه غير حاصل ولا ضرورى فى المستقبل. فلأمر الموجود الذى لا يجب وجوده لا يدخل فى الممكن الأخص ويدخل فى الخاص والعام، والواجب لا يدخل فى الأخص ولا فى الخاص ويدخل فى العام. ثم إن قوما تشككوا على أنفسهم فقالوا: إن الواجب لا يخلو إما أن يكون ممكنا أو لا يكون فإن كان ممكنا والممكن أن يكون ممكن أن لا يكون فالواجب ممكن أن لا يكون، هذا خلف. وإن لم يكن ممكنا، وما ليس بممكن فهو ممتنع، فالواجب ممتنع، وهذا خلف. فأجابوا بما هذه حكايته، قالوا: إن الممكن اسم مشترك فيقال على ما بالقوة ويقال على الضرورى، فالممكن الذى يقال على الضرورى لا يدخل فيه الممكن الآخر، ولا يكون ممكنا أن يكون وممكنا أن لا يكون معا؛ بل ممكن أن يكون؛ وأما الممكن الذى يقال على القوة فهو الذى يصدق فيه ممكن أن يكون وممكن أن لا يكون معا. فإذن ليس كل ما يقال له ممكن أن يكون يصدق عليه أنه ممكن أن لا يكون، فإن الممكن يقال على الضرورى؛ وليس أيضا كل ما يسلب عنه الممكن يجب أن يكون ممتنعا، فإن الممكن الذى بالقوة يسلب عن الضرورى ولا يجب منه أنه ممتنع. وهؤلاء قد زلوا من وجهين: أحدهما أنه ليس أحد من الناس يقول: ممكن، ويعنى به الضرورى على أنه اسم مرادف له، فإذا لم يعن به الضرورى، بل عنى إن كان ولا بد معنى أعم من الضرورى، إذ ليس يبعد أن يكون وقوعه على الضرورى وعلى الممكن الخاص وقوعا بمعنى واحد يعمهما جميعا، فيكون وقوعه عليها بالتواطؤ لا بالاشتراك الذى ادعوه، اللهم إلا من جهة أخرى غير هذه الجهة الى أومأنا اليها. ثم هاهنا شىء آخر وهو أن القوة اسم أخص من الممكن الذى نحن فى ذكره، فإن الشىء الذى فى القوة شرطه أن يكون معدوما، والممكن الذى ليس بضرورى هو الذى ليس دائما وجوده ولا دائما عدمه، فلا يبعد أن يكون موجودا فى الحال أو غير موجود. فإن قال قائل إذا وجد فى الحال صار واجبا فى وجوده من حيث هو موجود، فلم لا يقول: إنه إذا عدم صار واجبا فى عدمه من حيث هو معدوم ؟ فهو ممتنع الوجود إذ هو معدوم، لكن الواجب الذى كلامنا فيه ليس هو الواجب بشرط وقت وحال، وكذلك الممتنع الذى كلامنا فيه، بل الواجب هو الدائم الوجود، وللمتنع هو الدائم العدم. وليس إذا كان الشىء موجودا فهو واجب أى دائم الوجود، بل هو واجب بشرط ما هو موجود كما أنه دائم الوجود ما دام موجودا وليس دائم الوجود مطلقا، فليس ما قالوه هؤلاء بشىء.

Halaman 199