116

والجنس الثالث من التى هى أنواع من الكيفية، وجنس الأنواع من الكيفية، حاله فى أنه لا اسم يعمه، حال الجنس الثانى. وكذلك فإنه لم يذكر له رسم عام، بل جعل له اسمان، وجعل أحد الاسمين مقولا على أنواعه بالاشتراك، والآخر مقولا عليها قولا مجازيا. وذلك أن هذا الجنس يقال له جنس الكيفيات الانفعالية والانفعالات، فتكون الكيفيات الانفعالية، منها ما يشبه الملكة من النوع الأول، والانفعالات ما يشبه الحال منه. واسم الكيفية الانفعالية يقال على بعض أنواعها، لأنها تحدث من انفعال مثل الصفرة التى تتبع المزاج الحاد المستحكم فى الكبد، ويقال على بعضها لأنه يحدث منه انفعال لا فى كل شىء بل فى الحواس. أما الانفعالات فيوهم ظاهر ما يقال فيها أنها ليست كيفيات، كأن الصفرة إذا لم تستقر زمانا طويلا لم تكن من مقولة الكيفية، لا لأنها اصفرار، أى آخذ إلى الصفرة، فإن الاصفرار لو توهمناه تطول مدته، لم يكن أيضا كيفية، بل ربما أدى إلى كيفية تحدث فى آخرها، وعندما ينتهى إليها يفنى الاصفرار ويقف؛ إنما الاصفرار من مقولة أن ينفعل، بل الصفرة نفسها، إذا توهمنا الاصفرار قد انتهى إليها، فاستقرت استقرار صفرة أخرى، مما يدوم أو يطول زمانها، لكن هذه ثبتت يوما أو ساعة، وتلك طال بقاؤها، فإن هذه الصفرة تسمى انفعالا، والطويلة المدة كيفية، وكذلك السواد والحرارة والبرودة وما أشبه ذلك.

فإن أصلح هذا الظاهر، ومنع أن يكون طول الزمان وقصره مخرجا الشىء عن مقولة أو مدخلا فيها، كما فعل حيث ذكر الملكة والحال، فإن اللاتى تسمى انفعالات تكون أيضا كيفيات، لكنها من قصر مدتها، وسرعة زوالها منعت اسم جنسها، كما قد يقال للقليل إنه ليس، وسميت باسم الأمر الذى هو فى التجدد والتغير، وهو الانفعال، فسميت انفعالات؛ فيكون هذا الاسم كالمستعار لها، أو المنقول إليها، لمشابهة من غير أن يراد بإطلاق هذا الاسم عليها ما جرت العادة بفهمه منه. وبالحرى أن يكون الأمر كذلك، وألا يكون الاستعداد لسرعة الزوال مخرجا للأمر عن جنسه.

والآن فإن المعانى التى يدل عليها هذان اللفظان، هى معان ثلاثة: معنى الكيفية التى تنفعل عنها الحواس ولها بقاء، ومعنى الكيفية التى تحدث عن انفعال فى موضوعها ولها بقاء. وقد حصرا فى لفظ واحد. ومعنى الكيفية التى لا ثبات لها.

وليس كل واحد من هذه المعانى عاما لجميع ما تحت هذا النوع، ولا أيضا يدل على فصول حقيقية تنفصل بها أنواع مرتبة تحت هذا النوع، لكن أحد هذه المعانى قد يعم الثلاثة، وهو أنها بحيث تنفعل عنها الحواس، فإن الانفعالات والانفعاليات كلها تشترك فى ذلك، ويعمها شىء، وأنها من شأنها أن تفعل فى مواد ما أشياء تشاركها فى المعنى، فإن الحار يفعل الحار، والبارد يفعل البارد، والأسود أيضا يقرر شبح السواد فى الحواس والتخيل.

وتجدها تشترك فى أن يصح فى طبائعها أن تعرض للأجسام على سبيل الانفعال الجسمانى والحرارة النارية، وإن كان يظن على ظاهر الأمر إلى أن يعرف الأمر المحقق فيه، أنها لم توجد فى النار بانفعال، ولا أيضا فى مادة النار، إذ حصول ما يحصل فيها ليس بانفعال، إنما الانفعال فى الموضوعات القائمة.

فإن سامحنا فى تسليم هذا القول، فإن الحرارة من شأن طبيعتها من حيث هى حرارة أن تحدث بالانفعال، وإن كان فى غير النار. وحلاوة العسل، وإن لم تحصل فى العسل على سبيل انفعال من العسل، فقد حدثت على سبيل انفعال وجد فى أمور تكونت عسلا، وانفعلت انفعالا ما صارت بذلك حلوة، فتشترك بذلك فى أنها بحيث يصح أن تحدث عن انفعالات فى موضوع ما، وإن اختلفت فى أن بعضها يحدث بانفعال الموضوع بها نفسها، وبعضها قد يحدث تبعا لانفعال فى الموضوع؛ ويجمع جميع أصنافها بأن الحواس تنفعل بها.

ومع هذا فليس يمنع ظاهر الحال أن تكون هذه المعانى الجامعة قد تدخل فيها أمور: منها ما هو من باب الكيفية إلا أنه فى غير هذا الجنس، مثل الرطوبة واليبوسة والصلابة واللين والثقل والخفة، فإنها كلها محسوسات؛ ومثل الخشونة والملاسة، فإنه وإن لم تكن من الكيف، بل من الوضع، فهو محسوس. والرطوبة واليبوسة فى ظاهر الأمر، وللصلابة واللين أيضا هى من باب القوة واللاقوة.

لكنا إذا قلنا كيفيات انفعالية خرجت الخشونة والملاسة، وأما الرطوبة واليبوسة والصلابة واللين ففى أمرها نظر، فإنها إما أن تكون ماهيتها هى أنها استكمال استعداد فى أن ينغمز ويتشكل بسهولة، وفى أن لا ينغمز ولا يتشكل بسهولة، أو يكون أمر آخر هو فى نفسه موجود محصل ويلزمه هذه الكيفية، وتكون إنما تحس من جهة الأمر الآخر حتى تكون هذه الكيفية دليلا على ذلك الوجود الآخر.

Halaman 120