قال الشيخ الرئيس أبو على الحسين بن عبد الله بن سينا، أحسن الله إليه: وبعد حمد الله، والثناء عليه كما هو أهله، والصلاة على نبيه محمد وآله الطاهرين، فإن غرضنا فى هذا الكتاب الذى نرجو أن يمهلنا الزمان إلى ختمه، ويصحبنا التوفيق من الله فى نظمه، أن نودعه لباب ما تحققناه من الأصول فى العلوم الفلسفية المنسوبة إلى الأقدمين، المبنية على النظر المرتب المحقق، والأصول المستنبطة بالأفهام المتعاونة على إدراك الحق المجتهد فيه زمانا طو يلا، حتى استقام آخره على جملة اتفقت عليها أكثر الآراء، وهجرت معها غواشى الأهواء. وتحريت أن أودعه اكثر الصناعة، وأن أشير فى كل وضع الى موقع الشبهة، وأحلها بإيضاح الحقيقة بقدر الطاقة، وأورد الفروع مع الأصول إلا، ما أثق بانكشافه لمن استبصر بما نبصره، وتحقق ما نصوره، أو ما عزب عن ذكرى ولم يلح لفكرى. واجتهدت فى اختصار الألفاظ جدا، ومجانبة التكرار أصلا، إلا ما يقع خطأ أوسهوا، وتنكبت التطويل فى مناقضة مذاهب جلية البطلان أومكفية الشغل بما نقرره من الأصول، ونعرفه من القوانين. ولايوجد فى كتب القدماء شىء يعتد به إلا وقد ضمناه كتابنا هذا؛ فإن لم يوجد فى الموضع الجارى بإثباته فيه العادة وجد فى وضع آخر رأيت أنه أليق به، وقد أضفت إلى ذلك مما أدركته بفكرى، وحصلته بنظرى، وخصوصا فى علم الطبيعة وما بعدها، وفى علم المنطق. وقد جرت العادة بأن تطول مبادئ المنطق بأشياء ليست منطقية، وإنما هى للصناعة الحكمية، أعنى الفلسفة الأولى، فتجنبت إيراد شىء من ذلك، وإضاعة الزمان به، وأخرته إلى موضعه. ثم رأيت أن أتلو هذا الكتاب بكتاب آخر، أسميه "كتاب اللواحق"، يتم مع عمرى، ويؤرخ بما يفرغ منه فى كل سنة، يكون كالشرح لهذا الكتاب، وكتفريع الأصول فيه، و بسط الموجز من معانيه. ولى كتاب غير هذين الكتابين، أوردت فيه الفلسفة على ما هى فى الطبع، وعلى ما يوجبه الرأى الصريح الذى لا يراعى فيه جانب الشركاء فى الصناعة، ولا يتقى فيه من شق عصاهم مايتقى فى غيره، وهوكتابى فى "الفلسفة المشرقية". وأما هذا الكتاب فاكثر بسطا، وأشد مع الشركاء من المشائين مساعدة. ومن أراد الحق الذى لامجمجة فيه، فعليه بطلب ذلك الكتاب، ومن أراد الحق على طريق فيه ترض ما إلى الشركاء وبسط كثير، وتلويح بما لو فطن له استغنى عن الكتاب الآخر، فعليه بهذا الكتاب. ولما افتتحت هذا الكتاب ابتدأت بالمنطق، وتحريت أن أحاذى به ترتيب كتب صاحب المنطق، وأوردت فى ذلك من الأسرار واللطائف ما تخلو عنه الكتب الموجودة. ثم تلوته بالعلم الطبيعى، فلم يتفق لى فى أكثر الأشياء محاذاة تصنيف المؤتم به فى هذه الصناعة وتذاكيره. ثم تلوته بالهندسة، فاختصرت كتاب الأسطقسات لأوقليدس اختصارا لطيفا، وحللت فيه الشبه واقتصرت عليه. ثم أردفته باختصار كذلك لكتاب المجسطى فى الهيئة يتضمن مع الاختصار بيانا وتفهيما، وألحقت به من الزيادات بعد الفراغ منه ماوجب أن يعلم المتعلم حتى تتم به الصناعة، ويطابق فيه بين الأحكام الرصدية والقوانين الطبيعية. ثم تلوته باختصار لطيف لكتاب المدخل فى الحساب. ثم ختمت صناعة الرياضيين بعلم الموسيقى على الوجه الذى انكشف لى، مع بحث طو يل، ونظر دقيق، على الاختصار. ثم ختمت الكتاب بالعلم المنسوب إلى ما بعد الطبيعة على أقسامه ووجوهه، مشارا فيه إلى جمل من علم الأخلاق والسياسات، إلى أن أصف فيها كتابا جامعا مفردا. وهذا الكتاب، وإن كان صغير الحجم، فهو كثير العلم، ويكاد لا يفوت متأمله ومتدبره اكثر الصناعة، إلى زيادات لم تجر العادة بسماعها من كتب أخرى؛ وأول الجمل التى فيه هو علم المنطق. وقبل أن نشرع فى علم المنطق، فنحن نشير إلى ماهية هذه العلوم إشارة موجزة، ليكون المتدبر لكتابنا هذا كالمطلع على جمل من الأغراض.
Halaman 11