فصل في إثبات الغاية وحل شكوك قيلت في إبطالها، والفرق بين الغاية وبين الضروري وتعريف الوجه الذي تتقدم به الغاية على سائر العلل والوجه الذي تتأخر به فنقول: إنه قد بان، مما سلف لنا من القول، أن كل معلول فله مبدأ، وكل حادث فله مادة وصورة، ولم يتبين بعد أن كل تحريك فله غاية ما، فإن ههنا ما هو عبث، وههنا ما هو اتفاق، وأيضا ههنا مثل حركة الفلك، فإن لا غاية لها في ظاهر الأمر، والكون والفساد لا غاية لهما في ظاهر الظن. ثم لقائل أن يقول: قد يجوز أن يكون لكل غاية غاية، كما يكون لكل ابتداء ابتداء، فلا يكون بالحقيقة غاية وتمام، لأن الغاية بالحقيقة ما يسكن لديه، وقد نجد أشياء هي غايات أخرى إلى غير النهاية، فإن ههنا أشياء يظن أنها غايات ولا تتناهى، كنتائج تترادف عن القياسات ولا تتناهى. ثم لقائل أن يقول: لنترك أن الغاية موجودة لكل فعل، فلم جعلت علة متقدمة وهو بالحقيقة معلولة العلل كلها؟ ومما يليق أن نتكلم فيه بعد حل هذه الشبهة أنه هل الغاية والخير شيء واحد أم يختلف؟ وأيضا ما الفرق بين الجود والخيرية؟ فتقول: أما الشك الأول المنسوب إلى الاتفاق والعبث فنحله ونقول: أما حال الاتفاق وأنه غاية ما فقد فرغ منه في الطبيعيات. وأما بيان أمر العبث فيجب أن نعرف أن كل حركة ارادية فلها مبدأ قريب، ومبدأ بعيد، ومبدأ أبعد. فالمبدأ القريب هو القوة المحركة التي في عضلة العضو، والمبدأ الذي يليه هو الإجماع من القوة الشوقية، والأبعد من ذلك هو التخيل أو التفكر. فغذا ارتسم في التخيل أو الفكر النطقي صورة ما، فتحركت القوة الشوقية إلى الإجماع، خدمتها القوة المحركة التي في الاعضاء، فربما كانت الصور المرتسمة في التخيل أو الفكر هي نفس الغاية التي تنتهي إليها الحركة؛ وربما كانت شيئا غير ذلك؛ إلا أنه لا يتوصل إليه إلا بالحركة إلى ما تنتهي إليه الحركة، أو تدوم عليه الحركة. مثال الأول: أن الإنسان ربما ضجر عن المقام في موضع ما، وتخيل في نفسه صورة موضع آخر، فاشتاق إلى المقام فيه، فتحرك نحوه، فانتهت حركته إليه، فكان متشوقه نفس ما انتهى إليه تحريك القوى المحركة للعضلة. ومثال الثاني: أن الإنسان قد يتخيل في نفسه صورة لقائه لصديق له، فيشتاقه، فيتحرك إلى المكان الذي يقدر مصادفته فيه، فتنتتهي حركته إلى ذلك المكان، ولا تكون نفس ما انتهت إليه حركته نفس المتشوق الأول الذي نزع إليه بل معنى آخر، لكن المتشوق يتبعه، ويحصل بعده، وهو لقاء الصديق.
Halaman 144