آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (١٠)
شفاء العليل في اختصار إبطال التحليل
لشيخ الإسلام ابن تيمية
اختصره
العلامة محمد بن علي بن محمد البعلي الحنبلي (المتوفى ٧٧٨ هـ)
تحقيق
علي بن محمد العمران
إشراف
بكر بن عبد الله أبو زيد
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
1 / 1
راجَع هذا الجُزْء
سليمان بن عَبد الله العمير
جديع بن محمَّد الجديع
1 / 3
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه.
أما بعد؛ فهذا هو المختصر الثالث الذي وعدنا بإخراجه في هذه السلسلة المباركة - إن شاء الله - من آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال، وهو مختصر كتاب "بيان الدليل على بطلان التحليل"، المسمَّى: "شفاء العليل في اختصار بطلان التحليل".
ومما ينبغي أن يقال - هنا -: إن هذا الكتاب - أعني: بيان الدليل - من أجلّ كتب شيخ الإسلام وأكثرها فوائد، بل فيه من الفوائد والبحوث ما لا يوجد في غيره من كتب الشيخ (^١) = ومع هذا كلِّه لم ينل مكانته اللائقة به لدى الباحثين والمشتغلين بالعلم!.
ولعل ذلك يعود إلى أسباب؛ منها: عنوان الكتاب؛ إذ هو
_________
(^١) كبحثه لقاعدة سدّ الذرائع، وكلامه على مقاصد الشريعة، وغيرها، وهذا الكتاب ثبت أن الشاطبي قد نقل عنه في "الاعتصام" و"الموافقات" صفحات كاملة دون التصريح باسمه، بل يقول: قال بعض الحنابلة، أو: قال بعضهم. انظر "مقاصد الشريعة عند ابن تيمية": (ص/ ٥٠٨ - ٥١٧) للبدوي.
1 / 5
مُشعر بأنه خاصٌّ بمسألة التحليل، أو يعود إلى طبعة الكتاب؛ إذ طُبِع - أول ما طبع - ضمن "الفتاوى المصرية": (٣/ ٩٧ - ٤٠٥) سنة ١٣٢٧، وهو ليس منها، بل هو كتاب مستقلٌّ برأسه، ولم يُطبع مفردًا إلا سنة ١٤١٢ هـ عن مكتبة لينة بمصر، ولم تفلح هذه الطبعة في إماطة اللثام عن قيمة الكتاب العلمية، لا في مقدمتها، ولا في فهارسها، ولا في العناية بالكتاب (^١)!!.
ولقد كان من الجدير حقًّا أن يتقدم تحقيق الأصل - بيان الدليل - على مختصره هذا من باب تقديم الأصول على فروعها، لكن حصل العكس، ولعل في ذلك من الخير المخبوء ما فيه من التمهيد للعناية بالأصل، ليبلغ الغاية في الكمال، يسّر الله ذلك بمنه وكرمه، وقد عكف على تحقيقه الآن أحد طلبة العلم، وسيطبع ضمن هذه السلسلة - إن شاء الله -.
ثم إن القول في هذا المختصر كالقول في سابِقَيْه؛ من حيث ترجمة المؤلف، ووصف النسخة، ومنهج المؤلف، والعمل في الكتاب ... انظر مقدمة تحقيق "مختصر الصارم": (ص/ ١٥ - ٢٤).
وبقي أن نقول: إن هذا المختصر يقع من ذلك المجموع في الأوراق: (١٤٢ - ١٧٦) أي في ثلاثٍ وثلاثين ورقة، فهو يساوي مختصر الاقتضاء تمامًا.
_________
(^١) وهذا الإجمال كافٍ في نقد هذه الطبعة هنا، ومكان التفصيل مقدمة التحقيق الجديد للأصل.
1 / 6
وكان فراغ المؤلف من اختصاره - كما أثبته في آخره - سنة خمسٍ وخمسين وسبع مئة.
ويزيد هذا المختصر على سابقيه بأن له نسخة أخرى محفوظة في مكتبة برلين برقم (٢٥٨٣)، مكتوبة سنة (١١٠٠)، وتقع في (٢٣ ق)، وقد حصلنا على صورة منها عن طريق مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلامية، وهي نسخة جيدة، قريبة الشبه جدًّا بالأصل، لكن الجزم بأنها منسوخة عنه يُعكّر عليه وجود خلافات في بعض المواضع، وفيها بعض البياضات، وغالبها لكلمات عَسُر على الناسخ قراءتها.
وقد قابلنا هذه النسخة، وأثبتنا الفروق المهمة - على قلتها - في الهوامش ورمزنا لها بـ (م).
وقد كان اعتمادنا في الإحالة على أصل الكتاب - "بيان الدليل ... " - على طبعة المكتب الإسلامي سنة ١٤١٨، بتحقيق حمدي السلفي، وهي أحسن طبعات الكتاب حتى الآن، على ما وقع فيها من هناتٍ!. وأشرنا إليه بـ "الإبطال" اختصارًا.
والحمد لله حق حمده.
وكتب
علي بن محمد العمران
٢٩/ شوال/ ١٤٢٣ هـ
في مكة المكرمة حرسها الله
1 / 7
الورقة الأولى من نسخة المؤلف (الأصل)
1 / 8
الورقة الأخيرة من نسخة المؤلف (الأصل)
1 / 9
الورقة الأولى من نسخة ألمانيا
1 / 10
الورقة الأخيرة من نسخة ألمانيا
1 / 11
(١٤٣/ ب) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
والحمد لله الذي لا يُحْصِي الخلقُ ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسِه، لا يبلغ العارفون كُنْه معرفته، ولا يُقدِّر الواصفون قدرَ صفته.
والحمد لله الذي لا تُشْكَر نعمتُه إلا بنعمتِه، ولا تُنال كرامتُه إلا برحمتِه، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكلِّ شيءٍ عليم.
وهو الله لا إله إلا هو، له الحَمْد فى الأولى والآخِرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
والحمد لله الذي جَعَلَنا من خير أمةٍ أُخْرِجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله.
والحمد لله الذي أَكمل لنا ديننا، وأتمَّ علينا نعمتَه، ورضيَ لنا الإسلام دينًا.
والحمد لله الذي بيَّن لنا آياته، ونهانا أن نتَّخِذَها هُزْوًا، وأمرنا أن نذكر نعمته علينا، وما أنزلَ علينا من الكتاب والحكمة يَعِظنا به،
1 / 13
وأن نتَّقِيه، وأن نعلم أنه بكل شيءٍ عليم.
فإنه من تدبَّر هذه الأوامر = تبيَّن له أن فيها جِماع أمر الدين كلِّه، وعلمَ أن من هو بكلِّ شيء عليم لا يخفى عليه الذين يُلْحدون في آياته، ولا الذين يتخذونها هزوًا، ولا يخفى عليه من أظهر خلافَ ما في باطنه، فإن السرائرَ لديه بادية، والسِّرُّ عنده علانية.
فله الحمد كما يُحبه ويرضاه، وكما ينبغي لكريم وجهه وعِزّ جلاله، أحمده حمدًا موافيًا لِنِعَمه، مكافيًا لمزيده، وأستعينه استعانةَ مخلصٍ في توكله، صادق في توحيده، واستهديه إلى صراطه المستقيم صراطِ الذين أنعم عليهم من صفوة عبيده، وأستغفره استغفار من يعلم أنه لا ملجأ من الله إلا إليه في صدره (^١) ووروده.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةَ مُقِرٍّ بأن الدين عند الله الإسلام، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، خاتم النبيين وسيِّد الأنام، صلى الله عليه وعلى آله الصفوة الكرام، وسلَّم عليهم سلامًا باقيًا بقاء دار السلام.
أما بعد؛ فإن الله بعثَ محمدًا بالحق، وأنزلَ عليه الكتاب، وهدى به أمته إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولما كان العبدُ مفتقرًا إلى هذه الهداية في جميع أموره مما يأتيه ويذره؛ من أمور قد أتاها على غير الهداية، فهو محتاجٌ إلى التوبة منها، وأمور هُدِيَ إلى
_________
(^١) في "الإبطال": "صدوره".
1 / 14
أصلها دون تفصيلها، أو هُدِيَ إليها من وجهٍ دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية ليزاد (^١) هدًى، وأمورٍ هو (١٤٤/ أ) محتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها في المستقبل، مثل ما حصل له في الماضي، وأمورٍ هو خالٍ عن اعتقادٍ فيها، هو محتاج إلى الهداية فيها، وأمورٍ لم يفعلْها، هو محتاج إلى فعلها على وجه الهداية، إلى غير ذلك من أنواع الحاجات إلى أنواع الهدايات = فُرِضَ (^٢) عليه أن يسأل اللهَ هذه الهداية في أفضل أحواله - وهي الصلاة - مراتٍ متعددة في اليوم والليلة، وهذه نعمة مغايرة للمغضوب عليهم - اليهود -، وللضالين - النصارى -.
وكان الرسول الرؤوف الرحيم يحذِّر أُمَّتَه سلوكَ سبيل أهل الغضب والضلال، ويلعنهم (^٣) تحذيرًا للأمة أن يرتكبوا ما ارتكبوه من أنواع المِحال (^٤)، وينهى عن التشبُّه بهم في استحلال المحرَّم (^٥) بالاحتيال، لما علمه ﷺ مما أوقعه الله بهم على ذلك من الخِزْي والنكال.
ولما انتهى الكلامُ بنا في المدارسة في الفقه إلى مسائل الشروط في النكاح، وبُيِّن (^٦) ما كان منها مؤثِرًا في العقد، مُلْحِقًا له بالسِّفاح،
_________
(^١) كذا، وفي "الإبطال" و(م): "ليزداد".
(^٢) في "الإبطال": "فَرَضَ الله عليه".
(^٣) "الأصل": "ويعلنهم"!.
(^٤) أي: أنواع الكيد والمكر، انظر "اللسان": (١١/ ٦١٨ - ٦١٩).
(^٥) في بعض نسخ "الإبطال": "المحارم".
(^٦) في "الإبطال": "وبيان".
1 / 15
وجرى الكلامُ في مسألتي المتعة والتحليل، وتبين حكمهما بأرشد دليل، وظهرت الخاصَّةُ التي استحقَّ بها المحلِّل اللعنة، ولِمَ سمَّاه الرسول من بين الأزواج بالتيس المستعار، وتبيَّنَتْ مآخِذُ الأئمة تأصيلًا وتفصيلًا على وجه الاستبصار.
فانتبه بعضُ من كان غافلًا من رَقْدَته، وشكى ما بالناس من الحاجة إلى ظهور هذا الحكم ومعرفته؛ لعموم البلوى بهذه القضيَّة الشنيعة، وغَلَبَة الجهل بدلائل المسألة على أكثر المنتسبين إلى علم الشريعة، وسأَلَ أن أُعَلِّق في ذلك ما يكون تَبْصِرةً للمسترشد وحجة للمستنجد، فأجبتُه إجابةَ المتحرِّج من كتمان العلم المسئول، الخائف من نَقْض الميثاق المأخوذ على الذين أوتوا الكتاب وخَلَفُوا الرسولَ، والتمس بعضُ الجماعة مكررًا (^١) الالتماس بتقرير القاعدة التي هي للمسألة المذكورة أساس (^٢)، وهي: بيان حكم الاحتيال على سقوط الحقوق والواجبات، وحل العقود وحل المحرَّمات، بإظهار صورةٍ ليس لها حقيقة عند المحتال، لكن جنسها مشروع لمن قَصَد به ما قصده الشارع من غير اعتلال.
فاعتذرتُ بأن الكلام المفصَّل في هذا يحتاج إلى كتابٍ طويل، ولكن سأدرج في ضمن هذا من الكلامِ الجُمْلي ما يوْصِل إلى معرفة التفصيل، بحيث يتبين للبيب موقع الحيل من دين الإسلام، ومتى حدثت، وكيف كان حال ذلك عند السلف الكرام، وما بلغني من
_________
(^١) غير بينة في الأصل، و(م): "تكرر" والمثبت من "الإبطال".
(^٢) الأصل: "بأساس" والمثبت من (م) وأصله.
1 / 16
الحجة، بكلامٍ فيه اختصار، واللهُ المسئول أن يوفِّقنا وإخواننا المسلمين لما يحبُّه ويرضاه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكَّلت وإليه أُنِيب، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم.
(١٤٤/ ب) مسألةٌ (^١)
نكاح المحلِّل باطل حرام، لا يُفيد الحِل، وذلك أن الرجل إذا طلَّق امرأته ثلاثًا، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجًا غيرَه، كما ذكره الله في كتابه، وكما جاءت به سنةُ نبيِّه محمد ﷺ، وأجمعت عليه الأمة.
فإذا تزوَّجها رجلٌ بِنيَّة أن يطلِّقها لتحلَّ لزوجها الأول؛ كان هذا النكاح حرامًا باطلًا، سواءٌ عزم بعد ذلك على إمساكها أو فارقَها، وسواءٌ شرط عليه في العقد أو قبل العقد أو لم يشرط عليه لفظًا، بل كان ما بينهما من الخطبة وحال الرجل والمرأة والمهر نازلًا بينهم منزلةَ اللفظ بالشرط، أو لم يكن شيءٌ من ذلك، بل أراد الرجل أن يتزوَّجها ثم يطلقها لِتَحلَّ للمطلِّق ثلاثًا من غير أن تعلم المرأةُ ولا وليُّها شيئًا من ذلك، وسواءٌ عَلِم الزوج المطلِّق أو لم يعلم، مثل أن يظن المحلِّل أن هذا فِعْل خير ومعروف مع المطلِّق ومع امرأته بإعادتها إليه، لمَّا أن الطلاق أضرَّ بهما وبأولادهما وعشيرتهما، ونحو ذلك، بل لا تحل للمطلِّق ثلاثًا إلا أن ينكحها رجلٌ مرتغبًا لنفسه نكاح رغبةٍ لا نكاحَ دُلْسة، ويدخل بها بحيث
_________
(^١) "الإبطال": (ص/ ١٧).
1 / 17
تذوق عُسَيْلته ويذوق عُسَيلتها، ثم بعد هذا إذا حدثت فُرْقة لموتٍ أو طلاق أو فَسْخ جازَ للأول أن يتزوَّجها.
بل لو أراد هذا المحلِّل أن يقيم معها استأنف النكاح؛ لأن ما مضى عقد فاسد.
هذا هو الذي دلَّ عليه الكتابُ والسنة، وهو المأثور عن أصحاب رسول الله ﷺ وعامة التابعين، وعامة فقهاء الإسلام؛ مثل: سعيد بن المسيّب والحسن والنخعي وعطاء، وهؤلاء الأربعة هم أركان التابعين. ومثل: أبي الشعثاء والشعبي وقَتادَة وبكر بن عبد الله المزني، وهو مذهب مالك بن أنس وجميع أصحابه، والأوزاعي والليث بن سعد والثوري، وهؤلاء الأربعة أركان تابعي التابعين، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل في فقهاء الحديث، منهم: إسحاق بن راهويه وأبو عبيد وسليمان بن داود الهاشمي وأبو خيثمة وأبو بكر بن أبي شيبة وغيرهم. وهو قول للشافعي.
قال (^١) الإمام أحمد في رواية أبي بكر الأثرم: إذا تزوَّجها يريد التحليل ثم طلَّقها بعد أن دخل بها فرجعت إلى الأول؛ يُفَرَّق بينهما، ليس هذا بنكاحٍ صحيح.
وفي روايته - أيضًا - في الذي يطلِّق ثلاثًا: لا تحلُّ له حتى تنكح زوجًا غيرَه نكاحًا صحيحًا، نكاح رغبة ليس فيه دُلْسة.
وهذا قول عامة أصحابه ومحققيهم، قطعوا بأن المسألة رواية
_________
(^١) "الإبطال": (ص/ ٢٢).
1 / 18
واحدة. وهذا الذي استقرَّ عليه قول القاضي (^١) في كتبه المتأخرة، مثل "الجامع" و"الخلاف".
ومنهم من جعل في المذهب خلافًا، وسنذكر أصله إن شاء الله تعالى.
وقال عبدُ الملك بن حبيب (١٤٥/ أ) المالكي: ولو تزوَّجها فإن أعجبته أمسكها وإلا كان قد احتسب في تحليلها (^٢) للأول؛ لم يَجُز، ولا يُحلِّها ذلك؛ لما خالط نكاحه من نية التحليل.
وقياس قول أكثر أصحابنا أن هذا نكاح صحيح؛ لأنه إنما نوى فراقها إذا لم تعجبه وصار التحليل ضِمْنًا.
فأما من سوَّى من أصحابنا بين نكاح المتعة والتحليل وبين قوله: إن جِئتني بالمهر إلى وقت كذا وإلا فلا نكاح بيننا، فإن قولهم يوافقَ قولَ ابنِ حبيب، فإن هؤلاء يسوُّون بين أن يشترط الفُرْقة في النكاح عينًا أو يشترطها بتقدير عدم المهر.
وللشَّافعي فيما إذا نوى الزوج التحليل ولم يشترط عليه قولان:
أحدهما: مثل قول مالك (^٣).
والقول الثاني: أن النكاح صحيح (^٤).
_________
(^١) يعني: أبا يعلى بن الفراء.
(^٢) "الأصل": "تحليها"! .
(^٣) وهو قوله القديم.
(^٤) وهو قوله الجديد، انظر "الأم": (٦/ ٢٠٦).
1 / 19
ورُوي عن القاسم وسالم ويحيى بن سعيد وربيعة وأبي الزِّناد، حكاه عنهم ابنُ عبد البر (^١)، وفي القلب من حكاية هذا عنهم حزازة (^٢)؛ فإن مالكًا أعلمُ الناس بمذاهب المدنيين وأتبعُهم لها، ومذهبه في ذلك شدة المنع، وهؤلاء من أعيان المدنيين، والمعروف عن المدنيين التغليظ في التحليل، قالوا: هو عملهم وعليه اجتماع ملئهم.
وهذا القول الثاني هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وداود بن علي، وقد خرَّج ذلك طائفة من أصحابنا، منهم القاضي في "المجرَّد" وابن عقيل في "الفصول" وغيرهما على وجهين:
أحدهما: أن العقد صحيح مع أنه مكروه، قالوا: لأن أحمد قال: أكرهه، والكراهةُ المطلقةُ منه هل تحمل على التحريم أو على التنزيه؟ على وجهين. وجعلَ الشريفُ أبو جعفر وأبو الخطاب وطائفةٌ المسألةَ على روايتين (^٣). وقطع ابن البنّا بالصحة مع الكراهة.
وهذا التخريج ضعيف على المذهب من وجهين:
أحدهما: أن الكراهة المنقولة نَقَلها حَرْب: أن أحمد سئل عن الرجل يتزوج المرأة وفي نفسِه طلاقها، فكرهَه، وليس هذا
_________
(^١) في "التمهيد": (١٣/ ٢٣٤).
(^٢) بيَّنها المؤلف في موضع آخر من "الإبطال": (ص/ ٣٠).
(^٣) أحدهما: البطلان، كما نقله حنبل.
والثانية: الصحة؛ لأن حربًا نقل عنه أنه كرهه. كما في "الإبطال": ٢٤.
1 / 20
في (^١) نية التحليل، وإنما هو في نية الاستمتاع، وبينهما فَرْق؛ لأن المحلل لا رغبة له في النكاح أصلًا وإنما غرضه إعادتها إلى المطلِّق، والمستمتع له رغبة في النكاح إلى أَمَد، ولهذا أُبيح نكاحُ المتعة في بعض الأوقات ثم حُرِّم، ولم يُبَح التحليلُ قط.
الوجه الثاني: أن أحمد قال: إذا تزوَّجها ومن نِيَّته أن يُطلِّقها: أكرهه، هذا متعة، نقله عبد الله (^٢).
ونقل أبو داود (^٣) إذا تزوَّجها على أن يحملها إلى خراسان ثم يخلِّي سبيلها؟ فقال: لا، هذا يُشبه المتعة، حتى يتزوجها على أنها امرأته ما حَيِيَت.
وهذا يُبين أَنَّ هذا كراهة تحريم وأنه جعله متعة، والمتعة حرام عنده، ففي الجملة إذا تزوَّجها ونوى أن يُحِلِّها فلم يُنقل عن أحمد (١٤٥/ ب) فيه لفظ محتمل لعدم التحريم.
وأما إذا نوى أن يطلِّقها في وقت، فقد نقل عنه التحريم في روايةٍ تقدمت، وفي الرواية الأُخرى - وهو قوله: "هذا يُشبه المتعة" - يحتمل التحريم ويحتمل الكراهة، لأن المشبَّه دون المشبَّه به.
وأما إذا تواطآ على التحليل قبل العقد، فهو كالمشروط في
_________
(^١) (م): "هو في"، وأصله: "وهذا ليس في".
(^٢) لم أجده في مسائله المطبوعة.
(^٣) "المسائل": (ص/ ٢٣٠).
1 / 21
العقد عند كثير من هؤلاء، وهو أشْبَه بأَصْلِنا إذا قلنا: إن النية المجرَّدة لا تؤثِّر، فإن الغالب على المذهب: أن الشروط المتقدمة على العقد بمنزلة المقارنة، وهو مفهوم ما خرَّجه أبو الخطاب وغيره؛ لأنه خصَّ الخلاف فيما إذا نوى التحليل ولم يشترطه، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وهو قول هؤلاء التابعين الذين نقل عنهم الرُّخصة في مجرَّد نيَّة التحليل.
فرُوي عن القاسم وأبي الزناد وسالم: لا بأس إذا لم يعلم الزوجان، وهو مأجور، حكاه الطحاوي (^١). وكذلك قال ربيعة ويحيى بن سعيد: هو مأجور (^٢).
وعلى هذا (^٣)؛ فليس عن أحدٍ من التابعين رخصة في نكاح المحلِّل إذا علمت به المرأة أو الزوج المطلِّق، فضلًا عن اشتراطه. والمشهور في مذهب الشافعي: أن الشرط المتقدم غير مؤثِّر، وكذا ذكره القاضي في "المجرَّد": أنه عندنا كنية التحليل من غير شرط، وخرَّج فيهما وجهين.
وأما إذا شَرَط التحليل في العقد، فهو باطل، سواء قال: زوَّجتك إلى أن تحلَّها، أو إلى أن تطأها، أو بشرط أنك إذا وَطِئتها فلا نكاح بينكما، أو على أن لا نكاح بينكما إذا أحْلَلْتها، ونحو ذلك من الألفاظ التي أوجبت ارتفاع النكاح إذا تحلَّلت. أو قال:
_________
(^١) في "اختلاف العلماء" انظر "مختصره": (٢/ ٣٢٥) للجصّاص.
(^٢) ذكره عنهم ابن عبد البر في "التمهيد": (١٣/ ٢٣٤).
(^٣) من قوله: "وهو أحد الوجهين" إلى هنا ملحق في الهامش.
1 / 22
على أنك تطلِّقها إذا أحللتها، أو على أن يُحلِّها فقط (^١).
وهو ظاهر مذهب الشافعي، ويروى عن أبي يوسف.
وقال أبو حنيفة وأصحابُه: النكاحُ صحيحٌ والشرطُ فاسد.
وخرَّج القاضي في موضع من "الخلاف" وأبو الخطَّاب روايةً بصحة العقد وفساد الشرط، كقول أبي حنيفة، ومن أصحابنا من طَرَد التخريج في الصور الثلاث (^٢)، وهو في غاية الفساد! بل لا يجوز نِسبة مثل هذا إلى أحمد.
ثم عامة هؤلاء الذين لا يُبْطلون العقد يكرهون نكاح المحلل، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، ولم يبلغنا عن أحدٍ خلاف ذلك فيما إذا ظهر من الزوج أنه يريد التحليل.
وزعم داود: أنه لا يبعد أن يكون مرِيد نكاح المطلَّقة ليُحلها لزوجها مأجورًا إذا لم يظهر ذلك باشتراطه حين العقد. واخْتُلِف عن أبي حنيفة وأصحابه إذا صحَّحوا النكاح؛ هل يُفيد الحل أم لا يُفيده وإن كان صحيحًا (^٣)؛ لأنه استعجل ما أخَّره الشارع فجوزي بنقيض قصده.
فإذا ظهرت المقالات في هذه المسألة؛ فقد تقدَّم أن الذي
_________
(^١) من قوله: "أو إلى أن تطأها" إلى هنا ملحق في الهامش.
(^٢) سيذكرها المؤلف بعد قليل.
(^٣) عبارة "الإبطال": " ... فمرة قالوا: لا تحل له بهذا النكاح - وإن كان صحيحًا -، ومرة قالوا: تحل به ... ".
1 / 23