الفن الرابع من الطبيعيات فى الأفعال والانفعالات
مقالتان

قد فرغنا من تعريف الأمور العامة للطبيعيات، ثم من تعريف الأجسام والصور والحركات الأولية فى العالم واختلافها فى طبائعها، ثم من تعريف أحوال الكون والفساد وعناصرها، فحقيق بنا أن نتكلم عن الأفعال والإنفعالات الكلية التى تحصل عن الكيفيات العنصرية بمعاضدة من تأثيرات الأجسام السماوية، فإذا فرغنا من ذلك شرعنا حينئذ فى تفسير أحوال طبقات الكائنات، مبتدئين بالآثار العلوية والمعدنيات، ثم ننظر فى حال النفس. فإن النظر فى النفس أعم من النظر فى النبات والحيوانات، ثم ننظر فى النبات ثم فى الحيوانات.

ونختم هذه الجملة الطبيعية.

Halaman 201

المقالة الأولى من هذا الفن تسعة فصول
الفصل الأول فى طبقات العناصر

هذه العناصر الأربعة تشبه أن تكون غير موجودة على محوضتها وصرافتها فى أكثر الأمر. وذلك لأن قوى الأجرام السماوية تنفذ فيها، فتحدث فى السفليات الباردة حرا يخالطها، فتصير بذلك بخارية ودخانية، فتختلط بها نارية وهوائية. وترقى إلى العلويات أيضا أبخرة مائية وأدخنة أرضية، فتخلطها بها، فيكاد أن تكون جميع المياه وجميع الأهوية مخلوطة ممزوجة.

ثم إن توهمت صرافة فيشبه أن تكون للأجرام العلوية من النارية. فإن الأبخرة والأدخنة أثقل من أن تبلغ ذلك الموضع بحركاتها. واذا بلغت فما أقوى تلك النار على إحالتها سريعا.

ويشبه أن يكون باطن الأرض البعيد من أديمها إلى غورها قريبا من هذه الصفة. فإن لم يكن بد من أن يكون كل جزء من النار والأرض كائنا فاسدا باطنه وظاهره إلا أن ما يخلص إلى مجاورة الفلك من النار يمحض، ولا تكسر محوضته بشائب.

Halaman 202

وكذلك ما يخلص إلى المركز من الأرض يشبه المحض، فلا ينفذ فيه تأثير السماويات نفوذا يعتد به، ولا ينفذ إليه شائب؛ إذ لا يقبل رسوبا إلى ذلك الحد.

فيشبه لذلك أن تكون الأرض ثلاث طبقات: طبقة تميل إلى محوضة الأرضية وتغشاها طبقة مختلطة من الأرضية والمائية هى طين؛ وطبقة منكشفة عن الماء جفف وجهها الشمس، وهو البر والجبل. وما ليس بمنكشف فقد ساح عليه البحر، وهو أسطقس الماء.

ويستحيل أن يكون للماء أسطقس وكلية غير البحر. وذلك لأنه لا يخلو إما أن يكون باطنا غائرا، أو ظاهرا. فإن كان ظاهرا فهو لا محالة بحر ليس غير البحر.

وإن كان باطنا لم يخل إما أن يكون مستقرا فى الوسط، أو منحازا إلى بعض الجنبات. فإن كان مستقرا فى الوسط، فإما أن يكون بالطبع، فتكون الأرض أخف من الماء، وهذا محال؛ وإما بالقسر، فيكون ههنا قاسر للماء إلى حفر غور الأرض والانحياز فيه، وهذا أيضا محال.

وإن كان منحازا فى جنبة واحدة، فتكون كلية الماء محصورة فى بقعة صغيرة من الأوض وكلية الماء لا تقل، لا محالة، عن الأرض، إن لم تزد عليه. ثم يكون مقدار ماء البحر غبر قاصر عن مبلغه. فلم لا يكون البحر كلية دونه؟ ولم لا تفيض الأنهار فى «طرطاوس»؛ بل فى البحر لا غير، ولا يوجد إلى «طرطاوس» مغيض؟

Halaman 203

على أن لا نشك أن فى الأرض أغوارا مملوءة، إلا أنها لا تبلغ فى الكثرة مقادير البحار؛ ولا الأرض يكثر فيها التجويفات كثرة يكون لها تأثير بالقياس إلى كلية الأرض، كما ليس للجبال تأثير فى كريتها.

والهواء أيضا فهو طبقات: طبقة بخارية، وطبقة هواء صرف، وطبقة دخانية. وذلك لأن البخار، وإن صعد فى الهواء صعودا، فإنه إنما يصعد إلى حد ما. وأما الدخان فيجاوزه ويعلوه؛ لأنه أخف حركة وأقوى نفوذا لشدة الحرارة فيه. وأعنى بالبخار ما يتصعد من الرطب، من حيث هو رطب، وأعنى بالدخان ما يتصعد عن اليابس من حيث هو يابس. ولأن البخار، بالحقيقة، على ما بيناه، ماء متخلخل متصغر الأجزاء، وطبيعة الماء أن يبرد بذاته، ومن صورته، إذا زال عنه المسخن وبعد عهده به، فيجب أن يكون الجزء البخارى من الهواء باردا بالقياس إلى سائر الهواء. لكن ما يلى الأرض منه يسخن بمجاورة الأرض المسخنة بشعاع الشمس المستقر عليها استقرار الكيفيات لا الأجسام. وما يبعد عنه يبرد. فتكون طبقة الهواء السافلة بخارا يسخن بمجاورة الشعاع، ثم تليه طبقة بخارية باردة، ثم يليه هواء أقرب إلى المحوضة، ثم يليه هواء دخانى، وكأنه خلط من هواء ونار وأرض، ثم تليه نار، فتكون هذه الصفات ثمانية:

أرض إلى الخلوص ماء وطين، وبر مع الجبال، والبحر كطبقة واحدة مركبة، وهواء مسخن بالشعاع، وهواء بارد، وهواء أقرب إلى المحوضة، وهواء دخانى نارى ونار.

فهذه طبقات العناصر فى ترتيبها ووضعها.

Halaman 204

الفصل الثانى فصل فى أحوال كلية من أحوال البحر

ماء البحر ليس حكمه حكم سائر العناصر فى أن له طبقات مختلفة ظاهرة الاختلاف فى ترتيب العلو والسفل. وذلك لأن الماء سريع الاختلاط بما يخالطه؛ لأنه ليس عمقه وثخنه مثل عمق الهواء وثخنه. فلذلك يشتد اختلاط الآثار بكليته وتنفذ فيه. وجذب الشمس لما فى باطن الأرض وتحريكها إياه يفى بتبليغه وجه البحر وإخراجه عنه. ولولا ذلك لكان ظاهر البحر، وما يلى وجهه، أقرب ماء إلى طبيعة الهواء، وكان لا كثير تأثير فيه للأرضية. وليس كذلك؛ بل ماء البحر كله مالح أو زعاق.

والماء لا يتغير التغيرات التى بعد الكيفيات الأول، بنفسه، إنما يتغير لمخالطة شىء آخر. والهواء إذا خالطه جعله أرق وأعذب، ولم يجعله ملحا. إنما يصير ملحا بسبب الأرضية المحترقة المرة إذا خالطته. فلم يخطىء من زعم أن ملوحة ماء البحر لأرضية خالطته، إذا اعتقد، مع ذلك، شرط الاحتراق والمرارة.

Halaman 205