Sajak dan Pemikiran: Kajian dalam Sastera dan Falsafah
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Genre-genre
والأشباح في الجرار ... والندم،
حزني لا يفنى ولا يستحدث.»
هذا هو حزن جيل وعصر لا حزن شاعر ذاتي أو حكيم متفلسف. وعندما يكتب تاريخ هذا الجيل، وتكشف الأسباب الاجتماعية والسياسية والنفسية التي قيدته بحزنه، وجعلت هذا الحزن إطارا وجدانيا لحياته، عندما يروي تاريخ الهزائم التي مني بها - على الرغم منه - في الثلاثين سنة الأخيرة، فشوهت إنسانيته وحرمته البراءة والكرامة والحرية والعدل، عندما نقرأ يوميات الصوفي بشر الحافي الذي هرب مذعورا من مدينته بعد أن وجد أن الإنسان الإنسان عبر، من أعوام، ومضي لم يعرفه بشر، حفر الحصباء ونام، وتغطى بالآلام عندما يكتب هذا التاريخ سنعرف في أي الأيام الموبوءة عاش صلاح وجيله (اليوم الثامن من أيام الأسبوع الخامس في الشهر الثالث عشر)، وسنتبين من منطق هذا التاريخ المشوه المهزوم لماذا نهدد اليوم بالإبادة بعد أن حكم علينا بالموت والانقراض أو بالأحرى بعد أن قضينا على أنفسنا بالانتحار ...
إن حزن صلاح عبد الصبور هو وثيقة إدانة لعصره ورجاله الجوف. وهو جزء لا يتجزأ من تاريخنا الاجتماعي والسياسي الحديث الذي أصبحت فيه الكوارث هي زادنا اليومي. والأولى بنا هو دراسة هذا الحزن لا اتهامه، وبدلا من أن نسأل الشاعر: لم أنت حزين؟ علينا أن نسأل أنفسنا وواقعنا: ما الذي سبب له كل هذا الحزن؟ من أين جاء كل هذا الظلام؟ وكيف السبيل إلى الإنسان العربي، الإنسان قبل أن يفوت الأوان؟
أعتقد أن أهم ما يميز شعر صلاح هو «إيقاعه». لا أتحدث عن تجديده في البناء والصورة والموسيقى، عن درامية معظم قصائده وبنيتها القصصية، عن لغته التي تجمع بين الموروث الشعبي ومفردات الواقع المحسوس والحياة اليومية، عن النزعة التشكيلية التي تقربه من النحات والرسام في بعض قصائده الأخيرة ... إلخ لا أتحدث عن شيء من هذا، فغيري أقدر مني على وصفه وتحليله. إنما الإيقاع هو الذي أريد أن أتحدث عنه ولا أستطيع. هذا الإيقاع الممدود الثقيل الخطى، الحزين الساخر في وقت واحد، الإيقاع الذي اختار له الشاعر أو اختار لنفسه في معظم الأحيان بحر المتدارك والرجز، وظل يتماوج كالمناجاة مهما تعددت الأصوات (والحلاج مناجاة شعرية موزعة على عدة أصوات)، ويكتم أكثرها مما يبوح به، هذا الإيقاع البطيء الثقيل المجروح - كخطى جيش مهزوم أو راقص متعب - هو في تقديري أكثر ما يشدنا إلى شعره ويؤثر فينا. لا شك أن دارس الشعر أقدر مني على إثبات أن هذا الإيقاع الداخلي هو الذي يجتذب صوره وكلماته وأنغامه، وهو في النهاية كان أقدر من عناصره الأخرى على التأثير على عدد كبير من شعراء الشباب. أذكر من حوار قديم مع صلاح أننا اتفقنا على أن الإيقاع هو أخص ما يميز الشاعر الحقيقي، وأننا خرجنا من قراءاتنا المشتركة في أول العمر «لإليوت» بأن أعظم ما فيه هو إيقاعه. قد نرفض فكره وتشاؤمه وحنينه إلى عصر وسيط تباركه الكنيسة، وقد نشك في أسلوبه وتضميناته الكثيرة وثقافته الواسعة التي يحتال بها أحيانا لرتق ثوب موهبته المهلهل! بل قد نشك في حبه للبشر، وقدرته على التعاطف معهم، ولكننا لا نستطيع أن نفلت من سحر إيقاعه الممدود الهادئ الذي يشدنا إلى عالمه. أقول هذا الكلام الذي لا يغني عن الدرس المتأني، وتقصي أسباب هذا الحزن الموقع وبواعثه ومكوناته الفنية والنفسية والاجتماعية. لقد صار تراث صلاح ملك الجميع، فمتى نتحرك قبل أن يخجلنا الأجانب والمستشرقون؟!
وأخيرا فإن غياب صلاح وهو على قمة نشاطه وعطائه الشعري والثقافي مأساة ينبغي أن ينتبه لها الغافلون. وإذا كانت كابوسا ثقيلا، فهي في النهاية جزء من الكابوس العربي العام. ها هو ذا شاعر تتربص به نصال الخسة والغدر على مدى ربع قرن، حتى تطعنه في النهاية. انهالت عليه الضربات من اليمين الجاهل واليسار الثرثار، حتى سقط من ذا الذي يعوضنا عن إنسان وشاعر عظيم. وإلام يطغى الحطابون الفقراء من الموهبة على أصحاب الموهبة ويسمون حياتهم؟ ومتى ننصف المبدعين أو نتركهم على الأقل في حالهم بدلا من أن نذيقهم مرارة الجحود والحقد الأسود؟ أهو فصل من فصول تعذيب الذات الذي تعيش فيه أمتنا منذ سنين وسنين؟ أم ظاهرة من ظواهر الانتحار الذي نقبل عليه بكل قوانا البدوية والقبلية الموروثة؟ أحرام أن نوفر للمبدعين في كل الميادين جوا يساعدهم على التنفس؟ هل أصبحنا نكره كل من يقول لنا الحقيقة، مع أن الحقيقة وحدها هي القادرة على تحريرنا؟ لقد شقى صلاح كما يشقى كثيرون من زملائه الواقفين في الصف نفسه الذي وقف فيه، وينتظرون دورهم. شقى بالانقسام والتمزق بين شخصيته كمواطن وموظف وشخصيته الحقيقية كمبدع. فهل كثير على أمة النفط والشعر أن ترعى أبناءها الشعراء والمفكرين وتحميهم من نفسها؟ إن الشعر الحديث - في أصواته الرائدة الأصيلة - هو النور الوحيد في ظلام حياتنا الثقافية المعاصرة، وهو الذي حمل العبء عن الفلسفة العاجزة والعلم المشلول والنقد السطحي الثرثار، وهو الذي عانى آلام السقوط العربي، وارتفع صوته بالثورة والاحتجاج وبالكرامة والحرية والعدل. فلماذا نكره شعراءنا الصادقين إلا إذا كنا نصر على كراهية أنفسنا ونسرع بأنفسنا إلى نهايتنا؟ إنها مأساة وقضية، ويا ويل أمة لا تتعلم من مآسيها.
ج5 : تسألني كيف أنظر للحياة في ظل الأوضاع العربية الراهنة؟ وأسألك بدوري: هل يكفي «النظر» في مثل هذه الأوضاع؟ ومتى كان التأمل وحده كافيا في أي وقت من الأوقات؟
هل تذكر «مشارف الخمسين»؟ لقد بدأ الحبيب الحاضر الغائب صلاح عبد الصبور في نشرها حوالي سنة 1979م، وكنت قد بدأت في شتاء العام نفسه - ربما بنوع من التعاطف الوجداني أو تلاقي الخواطر عبر المسافات - بدأت بكائياتي (التي قدر أن تكون أخراها إليه)، ولا أحب أن أضيف شيئا عنها؛ لأن الفن كما قلت يحب الكتمان. تابع صلاح ذكرياته الحزينة، ونفض أشجانه وخيبة أمله وأمل جيله السيئ الحظ. وكانت الحلقة الأولى منها رثاء للنفس، وبكاء على العمر لا أعرف في كل ما قرأت في هذا الباب أصدق منه. أهو إلهام الشاعر المتنبئ سلسل الساحر والكاهن والعراف الناطق بلسان الغيب؟ أم أن الأمر لا يحتاج لسحر ولا تنبؤ ولا عرافة بعد أن أصبح الجاهل والعالم، والمخلص لأمته، والمتاجر بأوجاعها يتحدثون جميعا في الشارع والصحيفة وأجهزة البث الإذاعي والمرئي عن ظواهر التمزق والانهيار التي لم تعد خافية، ويحسون الخطر الأكبر الذي يتهددنا كل يوم (أكتب هذه الكلمات بعد أيام من الهجمة البربرية المجنونة على لبنان، أكتبها وبيروت الحرة الجميلة تخرب وتدمر وتحاول أن تحمي لحم أبنائها ودماءهم المتناثرة، بينما العرب يثرثرون ويتسكعون وينتهزون فرص إثبات البطولة الكاذبة) فهل يستغرب علينا وعلى عدد كبير من الأمناء على الكلمة أن يرثوا أنفسهم وأمتهم بعد أن أصبح الكلام لا يجدي، وسقطنا مفتوحي الأعين في الهاوية أو المستنقع؟ نحن لا نملك إلا أن نتكلم. لا نملك إلا تعذيب أنفسنا ورثاءها والبكاء على الكلمة التي لا تنقذ حضارة وعلى الحضارة الآفلة التي لم تحول الكلمة إلى فعل، لكن البكاء ورثاء النفس وتحذير الأهل والقوم هو في النهاية أدب وكلام مهما يكن جميلا وصادقا، فهو لا يغني ولا يغير ولا يقتل عدوا يحاصر سور المدينة المحاصرة. وتبقى رصاصة الفدائي الذي تخلى عنه الجميع هي الفعل الحاسم الوحيد. فهل نهب لنجدته والوقوف بجانبه؟ هل نسترد رجولتنا في لحظة تاريخية تندثر فيها شعوب وتحيا شعوب، وهل نتجاوز أحقادنا القبلية والبدوية ونفصد دمنا الفاسد لعلنا نخرج من طوفان الدم مطهرين؟ هي تبعث العنقاء العربية من الرماد أم نتخبط في الأنقاض وفي العار؟
كل ما يتجرعه الكاتب من مرارة يهون بجانب هذه المرارة أن يصبح بومة تنعب على أطلال أمته. ولقد حذر إيبور وأنذر لم يمنع التحذير والنذير من سقوط الحضارة الفرعونية، وتنبأ نيتشه بليل العدمية، ورأى أشباحها تجوس في ربوع أوروبا. وجاءت العدمية مرتين في حربين عالميتين، لكن أدباء آخرين لم يجدوا الوقت للبكاء أو الرثاء. تذكروا أنهم مواطنون أحرار وحملوا السلاح. فأين أنت أيتها الاتحادات الأدبية الموقرة؟ أين لتوحدي الأدباء وتنصريهم على أنفسهم وتوجهيهم لقصائد وملاحم تتحدث بصوت الرصاص؟
ليست كارثة لبنان هي أول كارثة تمر بنا. لقد أصبحنا نألف عشرات الكوارث بالنهار، ونحتضنها في أحلامنا وكوابيسنا بالليل. هل «رعب أكبر من هذا سوف يجيء» كما قال صلاح على لسان النبي المهزوم الذي يحمل قلما؟ هل يتمخض ليل الأوجاع عن صباح نشهد فيه مجتمع الحرية والعدل ومدن الرؤية المضيئة التي تعانق الشمس الأطفال؟ وهل سنظل متفرجين أم نقوم أخيرا بأدوارنا ونمضي إلى المصير باختيارنا؟ وإذا تحتم أن نغرق ونسقط، فلماذا لا نسقط كرجال؟ أليست هذه اللحظة التي يمكننا أن نقول فيها للموت إننا نموت ونحن نحتقرك ونثبت لك أننا لا نستحق الاحتقار. وإذا تركنا اللحظة تفوت كما فات غيرها، فكيف سننظر إلى وجوهنا؟ وماذا سنقول لأولادنا وأحفادنا؟ أسئلة وأسئلة وأسئلة. أبكي نفسي وعصري وأمتي، وأعلم أن الدموع ذليلة لا تقدم حلا ولا عزاء. ليس في يدي برنامج إصلاح، ولا أملك نظاما مغلقا من القيم والمبادئ والأخلاق، فأمام البيت المتداعي تتساقط القيم والنظم والشعارات. ومن السفينة الغارقة تهرب فيران الحكمة والفصاحة والشعر، ولا يبقى إلا شجاعة الربان وصمود الملاحين. فهل نتشجع ونصمد؟ هل يظهر من طوفان اللحظة أبطال ورجال؟ وهل نغرق (حتى لو عشنا بالملايين، فنحن الأموات المحتقرون) أم ننجو ونطهر بيتنا ونفوسنا؟ هل يسترد الإنسان العربي إنسانيته واحترامه أم يظل القطيع تحت سكين الذئب المغرور؟ تحركوا أيها الرعاة. إن الكلمة عاجزة لا تجدي. الكلمة طبل أجوف أو صيحة ندابة. والكلمة تنتظر الفعل، وأن تصبح فعلا لا يرحم. إن القبيلة المفترسة تهدد الحضر المترف، لكن من يتذكر ابن خلدون؟ والمغول والتتار على الأبواب يتربصون وسوف يتربصون لأجيال. من يضع السيف في يد النبي المهزوم؟ متى يفزع الحكيم المحزون إلى البندقية، وتخرج ثورة الباطن إلى الخارج، وينتهي الطلاق العربي بين الكلمة والفعل؟ متى ومتى وكيف؟
Halaman tidak diketahui