أيأكلون البضائع التي تعج بها مخازنهم وحوانيتهم؟! وهل يطعمهم الدولاب خبزا وخضارا ولحما؟ ثم من يستهلك منتوجاتهم، وينفق بضاعتهم؟! أليس القروي هو المستهلك والمنتج في وقت معا؟! لقد تخيل الشاعر الفرنسي سولي برودوم هذه الحالة، ووصفها في إحدى قصائده، فرأى الموت على مقربة منه.
فلو لم تسخر الطبيعة أبناءها كلا لعمل، وتجعل أسلوب حياته رائقا في عينيه، لما كان ابن القرية يرضى بعزلته وخشونة عيشه، فإذا دخلت القرية نهارا فقلما تجد في بيوتها غير الشيوخ العاجزين، والنساء اللواتي لا يستطعن عملا، أو اللواتي يهيئن الطعام للرجال الكادحين في الحقول، حتى إذا دنت ساعة الغداء، حملن سلال الطعام في يد، وأباريق الماء في يد، وهرولن إلى الحقول حيث تنتظر الرجال الزاد.
إن أيام القروي مملوءة عملا في جميع الفصول، وهو لا يلجأ إلى بيته نهارا إلا إذا دهمه المطر شتاء، وكواه الحر صيفا، فلكل فصل من فصول السنة عمل لا بد من أن يتمه في حينه؛ لأن المثل يقول له: «الفلاحة يد.» فإذا تقاعس أو تماهل فاته الرزق، والرزق في نظره قسمة ونصيب، ولكن العمل واجب؛ فالله قال: «قم حتى أقوم معك.» فإذا تباطأ أو قصر كان هو المقصر، وصح فيه المثل: «اللي من ايده الله يزيده.» «الحركة فيها البركة»؛ لذا تراهم لا يستقرون، فإذا تركوا الحقل للاستراحة فلا بد من عمل ما حول البيت، فالزمان يخلص، والعمل لا ينتهي، والتعب وسخ.»
ليس كل أهل القرى يحرثون وينكشون، بل هناك فئة تستأجر عمالا، فيكون عملها مراقبتهم لكي يحسنوا العمل ولا يضيعوا الوقت. وكما يتمتع العمال المدنيون بالموسيقى الاصطناعية التي ينطق بها المعدن، كذلك لهؤلاء موسيقى طبيعية ترفه عنهم، فهنا حسون يغني، وشحرور يغرد، وحجل يتكلم، وهناك راع ينفخ في شبابته فيلطف من شقاء الفلاح، ويهون عليه مصيبته، فتصير «نصف مصيبة».
النهار - كما قلنا - للعمل الدائم، وكيفما التفت العابر تقع عينه إما على حطاب يقطع الحطب، ويحمله إلى بيته ليدخره للشتاء، كما يدخر مئونته تماما؛ لأن المثل يقول له: «في كانون كن، ومن المولود للمعمود يقف الماء عامود»، وإما على آخر يلم تينه ليدخره للشتاء، فإذا كانت «المئونة في الصيف على العود، فأيلول طرفه بالماء مبلول.» فليستعد له، «فالشتاء ضيق ولو كان فرجا.»
وقد ترى مكاريا يسوق بغله وحماره، وهو يغني ليخفف من مشاق الطريق، ويبلغ المكان المقصود، فإذا «جاء الليل جاء معه الويل.»
إذا كنت رأيتني - وكما ستراني - أكثر من ذكر الأمثال، فلا تنس أن ثقافة القرية في أمثالها، فالمثل هو أدب الشعب وعنوان ثقافته، والدليل على عقلية الأمة الخام، وأخلاقها الأولية، ونتيجة اختباراتها في الحياة. إن الأمثال القروية أحكام محكمة الوضع في جمل وجيزة يعرفها القروي الأمي، كما يعرف المحامي المتضلع مواد الحقوق الأصلية، فهو يحدثك دائما بالأمثال، ولا بدع في ذلك؛ فالمثل هو الثقافة البشرية الأصيلة. وكما يوجد فلسفة عامة يعرفها المكاري والمعاز والأكار، فيشترك فيها العقل البشري على اختلاف طبقاته، كذلك يوجد ثقافة شعبية تجمعها هذه الأمثال، فهي - كما قلنا - أشبه بالمواد الكلية في الحقوق المدنية من حيث إيجازها وبلاغتها وما ينطوي تحتها من معان. فكتب حقوق القروي تحت لسانه، وهو لا يحتاج إلى مراجعة المجلات والدساتير ليصدر أحكامه؛ فهذه الأمثال أحكام تتناول جميع الشئون الحياتية، وهي تجمع المحاسن والأضداد، والكفر والإلحاد، وفي الجملة، الشيء وضده في كل باب ومطلب.
المثل - في نظري - هو رفيق الأمية عبر العصور، وستظل هذه الأمثال حية خالدة، إذا مات منها واحد قام عشرات. وهي تتغير وتتبدل بتبدل أساليب العيش، وتتطور بتطور الحياة، ولا تحرم الإنسانية عقولا ثاقبة ترسل الأمثال وتضربها في كل مناسبة.
وبهذا التبدل فهي تحافظ على بقائها؛ لأنها تنبع من جميع طبقات الشعب، ولذلك أراها ملائمة لعقلية الشعوب أكثر من الشعر، بل هي أصدق من الشعر. أما هذا التناقض الذي نراه فيها، فهو عندي طبيعي جدا؛ لأن المثل يماشي الحياة التي لا تسير على نمط واحد، وفي سياق واحد.
وقد حرص الناس على أن يقولوا في كل غرض مثلا. فللزراعة، وهي تهمهم كثيرا، أمثال لا تعد، نذكر منها قولهم: «غير بذارك ولو من عند جارك.» و«بعد أختي عني وخذ غلتها مني.» هذا ما نطق به الزارع والدارس.
Halaman tidak diketahui