Syaitan Bantaur
شيطان بنتاءور: أو لبد لقمان وهدهد سليمان
Genre-genre
قال: بقيت يا بني في النفس حاجة: إن أباك أشفق من السفهاء أن يمدوك وأخويك في الغي، فسلطني عليكم؛ فأما ذاك الذي استحيا فله نفس تزجره وهي حسبه، وأما أنت فقد رأيت من عقلك ما يطمئن به قلبي، وأما هذا الذي يشربها جهرا، ويلحظ اللائمين فيها شزرا، فالحيلة فيه قليلة، والنصيحة معه مستحيلة؛ فإذا لقيت أباك فتب من تلقاء نفسك إليه، واكفني شبهة المن عليه بهداية ولديه.
قال: أمرت ممتثلا يا مولاي. فودعه الأستاذ ونهض وصاحباه على أثره.
قال الهدهد: فلما خرجنا من الحانة رأينا الناس يزدحمون على بابها، والتفت إلى النسر فرأيت الغيظ على وجهه، وسمعته يقول لصاحبيه: ما أولع الناس بالناس، يشتغل أحدهم بشئون أخيه، وفي أيسر شأنه ما يلهيه! علم الملأ أن بنتاءور دخل في هذه الحانة، فاجتمعوا ينظرون كيف خروجه، فلأستقبلن جمعهم، ولأخطبن فيهم. ثم فعل فقال: أيها الناس، الماس فوق التراب ماس، والخزف خزف ولو حمل على الراس؛ أما والآلهة في معابدهم، وآباء الملك في مراقدهم، لرب صادر عن هذا المنزل أطهر من خارج من هيكل! أيها الناس، من زل منكم فليستتر، ومن رأى زلة فليستر، من علم على أخيه فلينصح له همسا، وليرحمه في نفسه، وليدع له في صلاته. أيها الناس، ثلاثة تعرض ولا يأمنها أحد أن تفاجئ: المرض، والمصيبة، والغواية؛ وما شكر أحدكم الآلهة على الخلاص منها بأفضل من رحمة الواقعين فيها. رأيتم من السفاهة والمجانة أن يلج شيخ في هذه الحانة فاجتمعتم، ولو عقلتم لما فعلتم؛ إن للعقل كما للقدم زلة، وإن للحليم كما للجاهل ضلة، وإن النفس مع الهوى مائلة، والعاقل من إذا مال مع النفس اعتدل. أيها القوم، إن ملككم لكبير، وإن عدوكم لكثير، أمركم نافذ في المشرق، وسيفكم في كل مفرق، وعداكم يسيرون، وحسادكم يسعرون، فاستبقوا نفوسكم وهذبوها، وحافظوا على أبدانكم وربوها، وأعدوها ليوم تدعوكم الأوطان لتقربوها، لا تعطوا الغواية أزمتكم فتسلب منكم ذكاءكم وهمتكم؛ دخل الرعاة بلادكم في شبيبة الدهر، فأفسدوا فيها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكان آباؤكم على أخلاقهم القديمة، يأخذون الفضيلة ويذرون الرذيلة، صحاح العقول، صحاح النفوس، صحاح الأبدان؛ فاستجمعوا في وقت السكون، ثم وثبوا في وقت الوثوب، فاستردوا ملكهم بقوة؛ ويراد منكم أن تكونوا في الأمن في درع مضاعفة من الفضيلة، لا تأمنون الدهر أن يأتي على عجل. يا حملة السلاح، لا تقتلكم في السلم الراح. يا حملة العلم، لا تغلبكم الخمر على الحلم . يا معاشر الصناع، من كان الوقت رأسه ماله، والصحة سبب رزقه، والكسب قوت عياله، فليهجر الخمرة فإنها مضيعة الوقت، مضرة الصحة، آفة النشاط.
قال الهدهد: فبينما النسر يتكلم والجمع يسمعون، برز الخمار له بين رجلين من الشرطة كان استأجرهما، فطلبا إلى الأستاذ أن يمسك عن الكلام، وألا يذم الخمر في بيتها، ولا يطعن عليها في وجهها؛ ثم أبلغاه أن صاحب الحانة يدعوه إلى المحكمة في اليوم التالي ليطالبه أمام القضاة ببدل ما ألم به من الضرر ولحق به من الخسارة، بسبب هذه الخطبة في هذا الموقف. فامتنع الأستاذ من الكلام كما أشار، وأجاب بأنه سيوافي المحكمة في الغد، وهناك يكون له وللخمار شأن.
ثم مشينا نخترق الصفوف، وهي تتنحى للنسر وتنحني له في طريقه، حتى خرجنا من ذلك القسم من المدينة، ودخلنا في قسم آخر؛ فقال الأستاذ لصاحبيه: غدا نتبارز أنا والخمر، ويحكم القضاة بيني وبين التجر.
قال أحدهما: قد كان لك يا مولاي غنى عما أتيت، إنك ظلمت إنسانا من حيث هديت.
قال: إن الطرق مدارس العامة، ولا يعلمهم فيها إلا الخطباء، والرجل يظلم الناس ليل نهار، ومن ظلم ظالما فما ظلم؛ إني لا أشفق من الخمر على الخاصة؛ فإن لهم عقولا تردهم أحيانا إلى الاعتدال في أمرهم، وأشغالا من العيش وأسبابا من السعة تعينهم على الخمر وتقيهم كثيرا من عواقبها؛ ولكني أشفق منها على العامة؛ فهي فيهم سلطان جائر، يفتك ولا يرحم، وشيطان ثائر، يسكن الرءوس فيملؤها شرا، ويتملك النفوس فيملؤها خبائث، وإذا هلكت العامة في أمة فقد هلكت الخاصة.
قال الهدهد: وبينما أنا مؤتنس بحديث النسر، أسمعه ولا أمله، وأتعظ بجميع ما يأتي ويذر، وإن لم يخاطبني في هذه المرة ولم أخاطبه، إذ قطع الحديث كعادته وتثاءب، فعلمت أن الساعة أتت، ثم نظر إلي وقال كلمته المألوفة: إذا جاء الليل ذهبت الشياطين، فالقني غدا في المحكمة، تسمع وتره.
المحادثة السادسة
قال الهدهد: فلما كان اليوم التالي، سئمت من النهار وطوله، ومن ينتظر يسأم، حتى إذا مال ميزانه واصلت الآفاق ركبتها إلى منفيس، وأنا أنتظر أن يكون لتلك المحاكمة نبأ، وأرجو أن أقف على درجة القضاء عند المصريين القدماء، لعلمي بأن العدل - كما قيل - أساس الملك، ولا عدل إلا حيث القضاء يدور دولابه، ويولاه أربابه، وتوثق أسبابه؛ فهو مرآة الحكومات التي تتراءى فيها بما هي عليه من استقامة أو عوج، وظلم أو عدل، وصلاح أو فساد، وارتقاء أو انحطاط؛ وأساس الممالك، إذا سلم سلمت، وإذا تهدم انهدمت؛ وعنوان شعور الأمم وتعقلها، ودرجتها في العرفان، ومبالغها من الفضيلة الإنسانية؛ لأن القوانين التي تضعها كل أمة وتتواصى بالخضوع لها، ليست إلا مجموعة تاريخها وآدابها وأخلاقها وعاداتها، ولأن القائمين عليها بهذه القوانين ليسوا إلا أفرادا من أبنائها، يبصرون بعينها، ويسمعون بآذانها، ويشعرون مثل شعورها، ويجدون مثل وجدانها؛ فإذا زكوا زكا سائر الأمة، وإذا خبثوا خبثت الأمة جمعاء.
Halaman tidak diketahui