والله - عز وجل - يأمر المسلمين أن يفوا بالعهود إذا عاهدوا، فقال في سورة النحل:
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون .
ولم ينس عمر الذميين حين أوصى المسلمين بعد أن أحس الموت، فأوصاهم بأهل الذمة وألح في وصيتهم.
على أن عمر لم يجعل إلى الولاة وحدهم إجراء العدل بين الناس، وإنما أرسل القضاة إلى الأمصار ليجروا أحكام الله بين الناس، غير متأثرين إلا بكتاب الله وسنة رسوله، فإن لم يجدوا في الكتاب ولا في السنة نصا اجتهدوا رأيهم وتحروا العدل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ولم يكن القضاة يخضعون للولاة في شيء، وإنما كان عمر هو الذي يختارهم، فإذا اختارهم وكلفهم أمر القضاء ليس لأحد عليهم سلطان إلا سلطان الله - عز وجل - بمقتضى ما أوحى إلى نبيه من الكتاب وما ألهمه من السنن.
15
وأقبل عام الرمادة في أعقاب سنة ثماني عشرة بعد أن صدر الناس من الحج، فأصاب العرب في الحجاز وتهامة ونجد جدب شديد، وانقطع عنهم الغيث وكان قوام حياتهم، واتصل ذلك تسعة أشهر؛ فاسودت الأرض حتى صارت كالرماد؛ فسمي العام عام الرمادة من أجل ذلك.
وفي هذه المحنة التي امتحن بها المسلمون ظهرت شخصية عمر واضحة كأوضح ما تظهر الشخصيات، ظهر حزمه ومضاؤه، وظهر بنوع خاص صبره على الكوارث واحتماله للشدائد وقيامه على أمور الناس في جد؛ فقد اهتم لأمر المسلمين ما وسعه أن يهتم به، وشغل نفسه بهذا الأمر نهاره وليله، فحصر تفكيره أو كاد يحصره فيه.
كان يجد في أمر الناس نهاره، فإذا صلى العشاء الآخرة دخل بيته، فصلى ما شاء الله له أن يصلي ثم نام قليلا، ثم استيقظ قبل آخر الليل، فخرج يمشي حتى يأتي منازل الأعراب حول المدينة، فيتفقد أمر هؤلاء الأعراب الذين أقبلوا من كل وجه حين اشتد عليهم الضيق، فنزلوا حول المدينة يلتمسون الرزق.
وكان عمر يطوف في منازلهم في آخر الليل، فإن أحس من أهل بيت شكاة أو ضيقا بالجوع أو الظمأ أو بالحاجة تعرض لهم أسرع إلى إصلاح ما يجدون. وكثيرا ما كان يخرج ومعه مولى له - وهما يحملان الدقيق والزيت - فإن أحس جوعا في أهل بيت أعطاهم ما يصلحهم، وربما صنع لهم طعامهم بنفسه، ثم إذا قضى من ذلك أربا عاد فصلى صلاة الفجر، ثم جد في أمر الناس نهاره.
وقد اشتد الجدب على الناس فأرسل إلى عماله يستعجلهم إرسال الطعام والثياب، ويقول بعض الرواة إنه كتب إلى عمرو بن العاص بمصر، ويروون نص كتابه:
Halaman tidak diketahui