وكان عمر يعطي الناس أعطياتهم بنفسه في المدينة، وكان يحمل ديوان القبائل القريبة من المدينة والبعيدة عنها قليلا، فيسعى به إليها، ويعطي الناس، ويعطي النساء أعطياتهن في أيديهن، ويأمر عماله أن يعطوا الناس على النظام الذي وضعه، لا يمنع العطاء إلا عن الأرقاء الذين لم يعتقوا، وأي رقيق حرر فعطاؤه كعطاء مولاه.
هذا هو النظام الذي فرضه عمر للعطاء، رواه الرواة على نحو ما صورناه لك، ولا أشك في أنه يحتاج إلى بعض التحقيق، ولكن النصوص تعوزنا مع الأسف الشديد.
10
ونظام العطاء هذا كما فرضه عمر جديد من جميع نواحيه، لا نعرف أن أمة من الأمم التي سبقت العرب إلى الحضارة عرفته أو عرفت شيئا قريبا منه، وإنما نعرف أن بعض الأمم القديمة كانت تستأجر الجنود للحرب ولا تحرمهم نصيبا من الغنائم قليلا أو كثيرا، ونعرف أن بعض الحكومات القديمة كانت تقطع الجنود أجزاء من الأرض إذا تقدمت بهم السن يعيشون من غلاتها؛ فأما أن تكفل الدولة رزق المسلمين جميعا على هذا النحو فلسنا نعرفه في التاريخ القديم، وما أظن أن الحضارة الحديثة وفقت إليه.
وكل ما وصلت إليه الحضارة الحديثة في بعض البلاد، ووصلت إليه بأخرة، إنما هو التأمين الاجتماعي الذي تؤخذ نفقاته من الناس لترد عليهم بعد ذلك، حين يحتاجون في بعض الأمر إلى العلاج حين يمرضون، وإلى كفالة الحياة للشيوخ والضعفاء والعاجزين عن العمل لكسب القوت، وتأمين العمال من أخطار العمل، وتأمين الذين يخدمون الدولة والهيئة الاجتماعية على رزقهم حين تنقضي خدمتهم، فأما أن يكون لكل فرد من أفراد الأمة نصيب مقسوم من خزانة الدولة فشيء لم يعرف إلا منذ عمر رحمه الله.
على أن سياسة عمر هذه لم تتصل بعد وفاته إلا شطرا من حياة عثمان، ثم عدل عن هذا النظام حين أنكر الناس على عثمان كثرة ما كان يعطي بعض الناس، وقد دفعهم ذلك إلى أن يلحوا على عثمان - رحمه الله - في إلغاء العطاء وقصره على الجند، ولم يستثنوا من ذلك إلا الشيوخ من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم . وذلك واضح؛ لأن أصحاب النبي شهدوا المشاهد معه، وقاتلوا المرتدين، وشارك كثير منهم في الفتوح.
وقد اضطر عثمان إلى أن يستجيب للمعارضين، ويعلن في بعض خطبه إلغاء العطاء لغير أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
والجند، وكان الذين اعترضوا على عثمان يقولون حين ألحوا عليه: إنما هذا المال لمن قاتل عليه. وقد فصلنا ذلك في غير هذا الحديث.
Halaman tidak diketahui