وفي براعة فائقة يصور الكاتب هذه الأوهام، حتى إنها لتختلط بالحقيقة، ويكاد القارئ ألا يلمس فارقا بين الواقع والخيال أو بين الوهم والحقيقة، وبالفعل كانت الكنيسة في تلك الأيام تحاسب الناس - والرهبان والراهبات منهم خاصة - لا على أفعالهم فحسب، ولكن على ما يدور بخلدهم كذلك، على نواياهم، وما تعتلج به نفوسهم ، حتى إذا لم يخرج عملا ملموسا.
وتصور الأم جان إغراء الشيطان لها وامتزاج الخيال بالواقع حينما تقول:
تصور معبدنا الصغير، على بساطته وخلوه من الزينة، لقد كان في تلك الليلة مكانا للترف والحرارة المعطرة. دعني أخبركم، لقد امتلأ بالضحك والموسيقى، وكان فيه المخمل، والحرير، والمعادن، وخشب أرضه لم يكن ممسوحا، لم يكن البتة نظيفا. نعم، وكان هناك طعام لحم حيوان عظيم، ونبيذ ثقيل، كفاكهة الشرق، وكنت قرأت عن كل ذلك وقد أتخمنا أنفسنا إلى درجة قصوى. ...
لقد نسيت، كنا في أزياء جميلة، وكان ردائي علي كأنه جزء من جسدي، وأخيرا لما تعريت وقعت بين الأشواك. نعم، كانت الأشواك منتشرة فوق الأرض، ووقعت بينها ... ...
وهكذا قهرنا الله من عقر داره، وفر مفزوعا من الإحساسات التي أودعتها في الرجال يد أخرى، ولما تحررنا منه احتفلنا برحيله مرة بعد أخرى ... إن الله - بالنسبة إلى شخص ... عرفت ما عرفت - قد انتهى، وقد وجدت راحة النفس.
ومن عجب أن كبار الأساقفة كانوا يحبون أن تبقى العقيدة في التلبس بالشياطين ثابتة قوية لا تتزعزع؛ لأن ذلك يجعل لهم بين الناس ضرورة وأهمية، فهم الذين يستطيعون بطقوسهم وصلواتهم ودعواتهم أن يطردوها.
أما إذا كان الفسق حقيقة واقعة، وليس وهما من أوهام الشيطان، فإنه يعد جريمة يعاقب عليها القانون، فيكون النفوذ لرجال الشرطة ورجال القضاء، ويضعف سلطان رجال الدين، ومن ثم كان ذلك التنافر بين رجال الدين ورجال الحكم، بين الكنيسة والدولة.
وكما تصور المسرحية شكوك الناس في حكم القانون المدني، تصور كذلك ارتيابهم في العلم والطب؛ إذ إن حياة الإنسان لا تحكم بقوانين الطبيعة، بالعقل المنظم، إنما تحكمها الشياطين والأرواح واللاعقل، والشيطان سلطان الشر في هذه الدنيا.
وفي سخرية بالغة يرسم الكاتب صورة لتأثير الوهم في عقائد الناس، فبينما كان أحد الأساقفة يقوم بإخراج الشيطان من جسد الأم جان، أراد مندوب الملك الذي كان يشهد المنظر أن يهزأ من الأسقف، فقدم إليه قارورة زعم أن بها دم المسيح، وإذا مس بها جبين الراهبة رحلت عنها الشياطين، ولما نفذ الأسقف ما أشار به مندوب الملك، صاحت الراهبة معلنة الخلاص من لبس الشيطان، فلم يعجب لذلك الأسقف؛ لأن دم المسيح لا بد أن يأتي بالمعجزات، وإذا بمندوب الملك يفتح القارورة ويظهر للأسقف أنها فارغة، وليس الأمر إلا وهما من الأوهام.
والمسرحية في جملتها مصاغة في لغة شعرية، تعج بالكناية، وبالرمز، وبالخيال الرائع، وبالتصوير القوي لحقائق الأمور وخفاياها.
Halaman tidak diketahui