ولد جون هوايتنج في عام 1917 وتوفي عن خمسة وأربعين عاما سنة 1963، وقد لفت إليه الأنظار منذ أول ظهوره؛ لأنه كان مجددا إلى درجة الإغراق، ثم اختفى فترة من الزمان مغمورا ليعود مرة أخرى بمسرحيته «الشياطين» التي نالت من الجمهور إعجابا شديدا. وقد بدأ حياته ممثلا كغيره من بعض الكتاب المحدثين، وأول ما كتب «شروط الاتفاق» التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، ثم أخرج التليفزيون له «جولة في الصحراء»، وقد دهش لها النقاد حتى قال أحدهم: «ماذا يصنع هذا الرجل، إنه فوق الأربعين من عمره، ولكنه يكتب وكأنه في الثامنة والعشرين.» وأجابه هوايتنج بقوله: «حقا ما تقول، فإني قد تغيرت كثيرا، ولكن شيئا أساسيا في نفسي لا يزال كما كنت أيام الشباب.» ومن مسرحياته أيضا «يوم القديسة» و«ادفع بنسا لتسمع الأغنية» وهي كوميدية في نثر شعري، وفيها يعده بعض النقاد من تلاميذ فراي الذي بعث المسرحية الشعرية في العهد الأخير. وتجري حوادث هذه المسرحية إبان حروب نابليون، وأهم ما تحويه حوار بين رجل متآمر وعامل من عمال المطافئ. وقد ظهرت على المسرح في عام 1951، ولفتت إليها أنظار النقاد بالرغم من أنها لم تنجح نجاحا كبيرا لدى الجمهور، ولم تعد على كاتبها بربح يذكر، وفي مباراة أدبية نظمها مجلس الفنون فازت مسرحية «يوم القديسة» وظفر بالجائزة الأولى عليها.
وقد أثارت هذه المسرحية ضجة في الأوساط الفنية، وانقسم النقاد بين محبذ ومعترض، ولكنها - على أية حال - كانت ذات طابع جديد، وموضوعها هو الموضوع الذي يستهوي هوايتنج دائما؛ تحطيم النفس أو إفناء الذات. هي قصة كاتب مسن ينتابه شعور بأن الناس يتآمرون على قتله في الخفاء وتنتهي بمماته، والحوار مشحون بالإشارات الأدبية والتلميحات الفلسفية، والحكاية معقدة فيها جانب من اللامعقول، ولكنها مثيرة متدفقة، تدفع المشاهد معها إذا لم يتوقف ليتساءل ما هو الهدف.
وكتب بعد ذلك مسرحية «نشيد المشاة» في عام 1954 وموضوعها كذلك إفناء الذات، وهي قصة قائد جيش يخير بين أن ينتحر أو يحاكم محاكمة علنية ويشهر به، ولما كان هذا القائد يشعر أنه ليس في الحياة ما يعيش من أجله أقدم على الانتحار، وفي هذه اللحظة تجذبه إليها فتاة حسناء، فتعيد إليه الرغبة في الحياة، فتردد في اختيار العيش مهما كلفه الثمن غاليا، وأراد أن يصل في ذلك إلى قرار حاسم، فغاص في أعماق نفسه يتبين ما تنطوي عليه من دوافع ومن اعتزاز، وعاد بذاكرته إلى ماضيه؛ فتذكر أنه كان يقاتل ذات معركة وكان لا بد له فيها أن يتخلل بدباباته مجموعة من الأطفال، فغلبت عليه إنسانيته وتخاذل في الهجوم فخسر المعركة وخسر شرفه الحربي، وكشفت له هذه الواقعة أن بكبريائه ثغرة، فآثر لنفسه الموت وانتحر وهو هادئ النفس مطمئن الضمير.
وقد نجحت المسرحية في تمثيلها، بالرغم من أن الحركة فيها باطنة، والعمل ليس مما يخرج عن نطاق الفرد، أي إنها على حد تعبيره «تتعارض مع المسرحة»، وهي - برغم امتيازها - فاترة لا حياة فيها. كما كانت مسرحية «يوم القديسة» مغرقة في الإشارات الأدبية والفلسفية كما ذكرنا، ومسرحية «ادفع بنسا لتسمع الأغنية» تعوزها الحوافز ودفعة الحياة برغم جدتها وسحرها الفاتن ... أي إن هذه المسرحيات كانت في كلمة موجزة: لا تسر إلا نفرا قليلا أعد إعدادا فنيا معينا ولا تكتسح الجمهور العادي الذي لم يدرب تدريبا فنيا خاصا.
فلما كان هوايتنج على المسرح إلى الإخفاق أقرب منه إلى النجاح، اختفى عن الأنظار سبعة أعوام، قضاها في كتابة الحوار للأفلام السينمائية، وكوميدية مريرة عنوانها «أبواب الصيف » طافت في الأقاليم ولم تبلغ العاصمة، وتمثيلية قصيرة قليلة الأثر قدمها للتليفزيون تحت عنوان «شاهد عيان»، ثم عاوده الحنين إلى المسرح فجرب قلمه من جديد في عام 1961 في كتابة مسرحية جديدة، وهي «الشياطين» هذه التي نحن بصددها، وقد استمد موضوعها من كتاب «شياطين لودان»، لأولدس هكسلي الكاتب الإنجليزي المعاصر المشهور.
وفي هذه المسرحية نلمس نفس الصفات التي تميزت بها مسرحية «نشيد المشاة»: مهارة فائقة في جمع المادة، وذكاء خارق في تحليلها، وتجديد في الاصطلاحات المسرحية، وتذوق رائع للحوار البليغ لا يخون المؤلف قط (كما خان برناردشو في موقف مشابه في «القديسة جون» حينما كان الموقف يتطلب اعترافا عاطفيا قويا حارا بالإيمان بالله يستند إلى الوجدان ولا يستند إلى الدليل العقلي كما فعل شو).
وموضوع هذه المسرحية - مرة أخرى - هو إفناء الذات، ومن ثم فقد وجد هوايتنج نفسه مضطرا إلى التحوير في أهمية شخصيات الكتاب الذي نقل عنه الموضوع، فأسند البطولة إلى قسيس في لودان، وهي مسندة إلى رئيسة راهبات الدير في كتاب هكسلي.
وأعجب الجمهور بمشاهدة المسرحية، وعدها النقاد تحفة فنية من تحف العصر الذي نعيش فيه واسترد بها الكاتب كرامته الأدبية.
وأخرج بعد ذلك مسرحية أخرى تحت عنوان «بغير سبب» وموضوعها أيضا إفناء الذات، إذ نشاهد فيها طفلا يقبل على الانتحار.
ومن المؤسف حقا أن هوايتنج الذي بشر بالمسرح الجديد في بريطانيا لم يعش طويلا ليعلو موجة انتصار الاتجاه الجديد. •••
Halaman tidak diketahui