فأما المسلمون في أقطار الأرض فلم يشتد حقدهم على محمد علي؛ ذلك بأن الدول الأوروبية كافة، وروسيا خاصة، كانت لا تفتأ تشن الغارة على الأتراك، وتزيدهم ضعفا على ضعفهم؛ فقد انتهت حروب الإمبراطورة كاترينا في سنة 1792م بمد الحدود الروسية إلى الدنيستر، ثم تحالفت روسيا وإنكلترا وفرنسا في سنة 1828م، وسلخن اليونان من جسم الدولة العثمانية، وأقمنها مملكة مستقلة، وفي سنة 1853م كانت حرب القرم. ولولا خوف إنكلترا وفرنسا من طغيان روسيا، ومن اكتساح الجنس السلافي أوروبا، لنال الروس من تركيا أكثر مما نالوا من قبل، ولنفذوا برنامجهم بإجلاء الأتراك عن أوروبا.
وهذا الضعف والاضمحلال الذي أصيبت الدولة التركية به هو الذي جعل المسلمين لا يحقدون على محمد علي حين غزا الأتراك، متمسكين بقول الشاعر:
فإن كنت مأكولا فكن أنت آكلي
وإلا فأدركني ولما أمزق
على أن الحرب التي شبت نارها بين روسيا وتركيا في سنة 1877م، والتي خلد فيها الغازي عثمان باشا انتصار الترك بدفاعه المجيد عن «بلفنا»، أحيت في نفوس المسلمين آمالا في دولة الخلافة التي كانت توشك أن تنهدم وتنهار.
ولقد كان المصريون إلى ذلك العهد يعطفون على تركيا عطف غيرهم من المسلمين، ولكنهم كانوا أبدا يفكرون في استقلالهم عنها ويريدون تحقيقه، ولم يكن الأمل في ذلك بعيدا بعد الفرمان الذي استصدره إسماعيل باشا في سنة 1873م، واستقل فيه بإدارة الدولة، وبالتشريع لها، وبإنشاء الجيش الذي يقوم بحاجاتها ومطامعها؛ لذلك كان عطفهم على تركيا منبعثا عن شعور ديني بحت لا أثر للتبعية السياسية فيه. فلما حطمت إنكلترا وفرنسا آمال إسماعيل، وقضتا عليه باسم ديون مصر، ودفعتا تركيا إلى خلعه، وانتهت إنكلترا باحتلال مصر بعد الثورة العرابية، ونكثت بعد الاحتلال وعودها بالجلاء، وأحس المصريون بتدخلها في شئونهم، اشتد عطفهم على تركيا، وضعف تبرمهم بسيادتها عليهم، وثبت عندهم اليقين بأن دول النصرانية تطارد دول الإسلام، وقويت فيهم النزعة الدينية؛ وكان من ذلك ما زاد النشاط في بعث الحضارة الإسلامية والأدب العربي في مصر. (2) وسط هذه العوامل السياسية والاجتماعية وجد «أحمد شوقي بك»، ولد ب «باب إسماعيل»، وشب في جواره، ونشأ في حماه؛ فكان طبيعيا أن تتأثر نفسه بالبيئة الاجتماعية والسياسية، وأن تكون أكثر تأثرا بها لقربها من المسرح الذي تشتبك فيه أصول هذه العوامل وأسبابها، وتضطرب فيه اضطرابا يخفيه ما تقضي به حياة القصور، ثم تصدر إلى الحياة بعد أن تكون قد نظمت وهذبت. وشوقي خلق شاعرا، والشاعر يتأثر أضعاف ما يتأثر سائر الناس؛ لذلك كان لكل هذه العوامل أثر باد في شعره وفي حياته .
ومع أن شوقي درس في مصر، ثم أتم دراسته في أوروبا، وتأثر بالوسط الأوروبي وبالحياة الأوروبية وبالشعر الأوروبي تأثرا كبيرا، فقد ظل تأثره بالبيئة التي وصفنا ظاهرا في حياته وفي شعره، كما ظل تأثره بالبيئة الأوروبية ظاهرا فيهما كذلك.
وإنك لتكاد تشعر حين مراجعتك أجزاء ديوانه - بعد أن يتم نشرها جميعا - كأنك أمام رجلين مختلفين جد الاختلاف لا صلة بين أحدهما والآخر، إلا أن كليهما شاعر مطبوع يصل من الشعر إلى عليا سمواته، وأن كليهما مصري يبلغ حبه مصر حد التقديس والعبادة. أما فيما سوى هذا فأحد الرجلين غير الرجل الآخر؛ أحدهما مؤمن عامر النفس بالإيمان، مسلم يقدس أخوة المسلمين، ويجعل من دولة الخلافة قدسا تفيض عليه شئونه وحوادثه وحي الشعر وإلهامه، حكيم يرى الحكمة ملاك الحياة وقوامها، محافظ في اللغة يرى العربية تتسع لكل صورة ولكل معنى ولكل فكرة ولكل خيال. والآخر رجل دنيا يرى في المتاع بالحياة ونعيمها خير آمال الحياة وغاياتها، متسامح تسع نفسه الإنسانية وتسع معها الوجود كله، ساخر من الناس وأمانيهم، مجدد في اللغة لفظا ومعنى. وهذا الازدواج ظاهر في شعر شوقي من أول شبابه إلى هذا الوقت الحاضر، وإن كان لتأثره بالقديم الغلبة اليوم، وكانت آثار الرجل الآخر لا تظهر اليوم في شعر شوقي إلا قليلا.
ولا تقل إن الازدواج النفسي شأن الشعراء، وإن أبا نواس الذي كان يقول:
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر
Halaman tidak diketahui