كيف تنشأ المعاني في النفس فكرة أو شعورا أو وجدانا؟ وكيف تصور في حقيقة أو مجاز؟ وكيف تلبس الألفاظ، ثم كيف تركب الألفاظ في لغاتها وتتسق في عباراتها؟ وكيف تقدم وتؤخر، وتقلل أو تكثر؟ كل أولئك أمور خطيرة ومباحث عويصة؛ ولكني أراها صورة محكمة، ونغمة مؤتلفة بين سريانها في النفس إلى الإبانة عنها بالعبارات. فالمعنى الشعري مثلا وألفاظه المفردة، وعباراته وأبياته، كلها نظام واحد إن اختل جانب منه اختل كله، كالصوت ينبض به الوتر فتقطعه الصنعة وتؤلفه حتى يستوي لحنا مطربا. فإن كان المعنى تافها أو غامضا أو كان التصوير غير بين أو غير جميل، أو كان اللفظ حوشيا أو مبتذلا أو مبهما، أو كان التركيب منكرا في لغته مختلا في صناعته أو كان ركيكا أو سخيفا. إن كان شيء من هؤلاء اختل الوزن وشاهت الصورة، واضطربت النغمة، واعتل السياق. وجماع هذا كله أن تقول: اختل البيان.
وهذا سر ضياع المعنى السري بلفظ ناب أو حرف معتل، وأن شاعرا يخرج معنى في أروع صورة في لغة، ويخرج المعنى نفسه مضطربا في لغة أخرى لم يتمكن فيها تمكنه في الأولى.
الأربعاء 15 ذي الحجة/27 سبتمبر
عد الأمواج
كنت في مدينة مرسين صيف سنة 1937م وكان معي رفيق تركي من مهاجري البلقان، وقد قال هذا الرفيق في شجون من الحديث: يقال: إن رجلا رأى رجلا يعرفه قاعدا على شاطئ البحر فسأله: منذ كم أنت هنا؟ قال: من أول النهار. قال: ماذا تفعل؟ قال: أعد الموج. قال: كم عددت؟ فنظر إلى موجة آتية نحو الشاطئ وقال: هذه واحدة.
وكنا يوما في مجلس المجمع اللغوي نبحث في اللهجات العربية كيف تستقصى وكيف تدرس، وقد قدم إلى المجلس تقرير عن تتبع الكلمات ووضع مصورات وأطالس للهجات تبين مواطن الكلمة الواحدة، على اختلاف لهجاتها.
قلت: إن أمامنا أعمالا أجدى من هذا البحث وأوجب، وحدثت الأعضاء حديث الرجل الذي كان يعد الموج وقلت: ما أشبه تتبع هذه الكلمات بعد الأمواج، وربما يقال: إن لعد الموج فائدة؛ فلعل إحصاء الأمواج في ساعة أو يوم يعرف قصدا أو عفوا بقانون ينفع الناس. فإن قيل هذا فدرس اللهجات كعد الأمواج فائدته كفائدته، قليلة بعيدة لا ينبغي أن تصرفنا عما هو أنفع وألزم.
قال أحد الزملاء: إن عمل العلماء في كل حين هو عد الموج. وقلت: إن العلماء يعدون الموج حين يفرغون من كل عمل أنفع وأولى، فيكون عد الأمواج ابتغاء فائدة موهومة ضربا من النوافل يشغل به من فرغ من الفروض والواجبات، أو ضربا من اللهو يحاوله من يبغي إزجاء الوقت بما يلهيه، أو بالأحرى من يبغي قتل الوقت.
إذا فرغت الأمة من الفروض والواجبات فلها أن تشغل نفسها بالمندوبات أو تلهو، بما تشاء من المباحات. ولكن الذي نحذره أن تتنفل الأمة أو تلهو وعليها أعباء جسام وأعمال عظام لم توفها حقها من النظر والعمل.
الخميس 16 ذي الحجة/28 سبتمبر
Halaman tidak diketahui