ولئن كانت الكتابة العربية مؤلفة من أحرف الأبجدية التي نفكها ونركبها في مختلف الكلمات والجمل، وليست هي كالهيروغليفية صورا فعلية تمثل الأشياء بأعيانها؛ إلا أننا نلاحظ قدرتها العجيبة على مسايرة الأوضاع الجزئية للأشياء الخارجية، مما يقربها جدا من وسائل الفنان. ونعيد ما قد فصلنا فيه القول، فنقول إن الفرق الجوهري بين نظرة الفنان ونظرة العالم، هو أن الأولى تساير جزئيات الوجود الفعلي، بينما الثانية تبدأ بتلك الجزئيات ثم تجاوزها إلى معان مجردة تتمثل في الصيغ الرياضية التي نصوغ بها القوانين العلمية؛ فكلمة واحدة في الكتابة العربية، مثل كلمة «كتبت» تستطيع أن تغير في شكلها فتحا وضما وكسرا وسكونا فتجعل منها عدة كلمات، كل كلمة منها تشير إلى حالة جزئية غير الحالة الجزئية التي تشير إليها الصورة الثانية من مختلف صورها، فافتح التاء الأخيرة تخاطب مذكرا، واكسرها تخاطب مؤنثا، وضمها تتكلم عن نفسك ... وهكذا وهكذا.
ولا بد أن نلاحظ هنا أن هذه الميزة التعبيرية في اللغة لها ثمنها، وذلك أن تركيز مجموعة كبيرة من الوظائف في كلمة واحدة، أو في عبارة واحدة، لا بد أن يتبعه تعقيد في النحو والصرف؛ لأن اللغة إذا سايرت جوانب الوجود الفعلي الكثيرة بما بينها من فروق دقيقة ولطائف رقيقة، كان لا بد لصور كلماتها وعباراتها أن تتنوع تنوعا يقابل تلك الكثرة الهائلة.
إن روعة لغات الشرق لتتبدى حين يكون الموضوع شعرا أو ما هو قريب الصلة بالشعر، ودقة لغات الغرب تظهر حين يكون الموضوع علما أو ما هو قريب من العلم.
الفصل الثالث
نظرة الشرقي هي في جوهرها نظرة الفنان، تمس الأشياء مسا مباشرا يهز الوجدان، ولا تبعد عن الأشياء بالتحليل والتجريد اللذين هما من وظائف العقل المنطقي الصرف، وهي نظرة ترى الكائن الواحد في مجموعه كأنه حقيقة واحدة، لا بعناصره التي ينحل إليها ويتألف منها، ثم هي نظرة سرعان ما تهتدي إلى الوحدة التي تضم شتى الكائنات في كائن واحد يطويها في ذاته فإذا هي جزء منه؛ فمهما يكن من أمر هذه الكثرة الكثيرة التي تراها أعيننا هنا وهناك في أرجاء المكان، فالحقيقة واحدة لا تعدد فيها.
والطابع الذي يميز هذه النظرة الجمالية للوجود، فيميز بالتالي ثقافة الشرق، إنما يتمثل في الأسفار الدينية، وفي الكتب المنزلة التي أراد الله أن يوحي بها في بقاع الشرق المبارك، فمن هذه الأسفار والكتب انبثقت نظرة الشرقي إلى الحياة وإلى الفن وإلى الدنيا وإلى الآخرة، ومن لم يتمثل الروح المنبثة السارية في هذه الأسفار والكتب، بحيث يمزجها بنفسه مزجا، فلا أمل له في معرفة صحيحة عن الشرق وثقافته، حتى لقد قيل إن تفهم هذه الأسفار والكتب ليغني الغريب عن السفر إلى الشرق والعيش فيه بين أهله وبنيه؛ لأنه إن أدركها تمام الإدراك، فقد أدرك تلك الوحدانية الصوفية التي تدمج الكون في كائن واحد على اختلاف ما فيه من كائنات، أو التي تجعل للكون ربا واحدا على تعدد ما فيه من أشياء وأحياء، وأما من لم يستطع أن يتمرس هذه الخبرة الروحانية في حياته وفي فلسفته، فهو أبعد ما يكون عن روح الشرق، ولو عاش في ربوعه طيلة حياته.
نعم، إن هذا بعينه يصدق على كل ثقافة غير ثقافة الشرق، فحسبك أن تدرس وتتمثل ذخيرة الغرب الفكرية لتصبح ذا نظرة غربية إلى دنياك، ولكنه أصدق بالنسبة إلى الشرق منه بالنسبة إلى الغرب؛ لأن ثقافة الشرق - كما أسلفنا - معتمدة على اللمسة الفنية والخبرة الذاتية الباطنية، وثقافة الغرب أقرب إلى النظرة العلمية، واللمسة الفنية مستحيلة على من لم يمارسها لمسا مباشرا، كما يستحيل على من لم يذق لونا من الطعام أن يعرف كيف يكون طعمه على ذوق اللسان، وأما النظرة العلمية فتوقف صاحبها على مبعدة من موضوع بحثه، فليس به حاجة مثلا إلى أن يرى الضوء بعينيه ليفهم قوانين الضوء في علم الطبيعة.
ففي مصر القديمة كان الدين - والدين خبرة ذاتية لا صيغة رياضية نظرية - عماد الحياة ومحور الأدب والفن وأساس النظام الاجتماعي كله، وقد كانت عقيدة المصري أن بداية الخلق هي السماء، ولكنه لم يصور لنفسه هذه السماء وأجرامها تصويرا يحولها إلى مسافات وأبعاد فلكية يقيسها القياسون ويحسبها الحاسبون، بل تصورها قبة تقف في فضائها الرحيب بقرة عظيمة أقدامها مرتكزة على الأرض، وبطنها هو هذا الذي تراه مزدانا بآلاف النجوم الساطعة، وبهذه الصلة بين الأرض والسماء عن طريق البقرة الثرة الولود، ولدت الأشياء جميعا ... فماذا تكون هذه النظرة إن لم تكن نظرة الفنان؟
ونظر المصري إلى الحياة فلم تتحول في عينيه «بيولوجيا» تخضع لتجارب العلماء، بل نظر إليها فإذا هي حقيقة متصلة واحدة مقدسة أصولا وفروعا؛ فمصدر الحياة مقدس، نباتا كان أو حيوانا، فالنخلة السامقة المثقلة بثمرها والوارفة بظلها في قلب الصحراء، والجميزة التي تزدهر وتترعرع في الرمال، والماء الذي يسقيهم، كلها قمينة بالقداسة والتوقير ... ألا ما أجمل أن ترى القروي حتى يومنا هذا ينحني لقطعة الخبز إذا وجدها ملقاة في عرض الطريق، فيقبلها ثم يضعها في حضن الجدار بمأمن من أقدام السائرين؛ لأن لقمة الخبز نعمة الله إذ هي من مقومات الحياة.
والمغرور من الناس هو الذي ينظر إلى صنوف الحيوان والطير، فلا يلمس فيها رابطة الحياة التي تؤاخي بينه وبينها، فلا غرابة أن يهتدي المصري بوجدانه الحي الحساس إلى توقير هذه الأسرة الكبيرة بمختلف أفرادها توقيرا بلغ حد التقديس.
Halaman tidak diketahui