وهذا الفارق نفسه كائن بين الفن هنا والفن هناك - على وجه العموم - لأن الفن الشرقي في شتى عصوره وفي جميع أصقاعه لم يكن يراد به أن يصور الحقيقة الجزئية الخارجية تصويرا يستهدف التمثيل الدقيق لكل تفصيلات الشيء المصور، وإن شئت فانظر إلى التصوير المصري القديم الذي هو أقرب إلى التخطيط الذي قلما يراعي قواعد المنظور - عن عمد لا عن جهل من الفنان - أو انظر إلى التصوير الهندي للآلهة والإلهات ذوات الأذرع الكثيرة والرءوس المتعددة وما إليها؛ ذلك لأن الفنان الشرقي يرسم الحقيقة كما تقع في وعيه، لا كما هي قائمة في الطبيعة الخارجية، وأما زميله الغربي - لو استثنينا الثورة الفنية الحديثة في الأعوام الستين أو السبعين الأخيرة - فقد كان يراعي أن تجيء الصورة وكأنها - بأبعادها الثلاثة - تمثال منحوت في الحجر؛ وذلك لأنه أراد دائما أن تجيء الصورة مطابقة للمصور حتى لتقول في غير عناء: هذه صورة لذلك الشخص أو ذلك الشيء ... وما دلالة ذلك فيما نحن بصدد الحديث عنه؟ دلالته أن الثقافة الشرقية بشتى نواحيها من دين وفن وفلسفة تعبيرات تخرج ما تضطرب به النفس من وجدان، على حين أن الثقافة الغربية بجميع ألوانها من علم وفلسفة وفن لا تخلو أبدا من الرمز إلى ما هو كائن خارج النفس الإنسانية بكل ما فيها من جيشان.
فكأنما الفنان الشرقي حين يصور لك شيئا، فإنما يريد لك أن تقف عند المادة المعروضة لذاتها وفي ذاتها؛ لأنها هي نفسها الحق كله، وأما الفنان الغربي - وأعيدها مرة أخرى أنني أستثني الثورة الأخيرة في الفن العربي - فيعرض لك أثره الفني لا لتستمتع به في ذاته ولذاته، بل لتنقل بعد ذلك من الأثر إلى المؤثر، من الصورة إلى المصور، من الرمز إلى المرموز إليه، كأن الصورة الفنية عنده ضرب من الكلام العلمي الذي يقال ليدل على أشياء تقع خارج الكلام نفسه؛ فهي ليست مكتفية بذاتها لأنها ليست هي الحق كله، إنما يكملها الطرف الآخر الخارجي الذي جاءت الصورة لتصوره وتشير إليه، فلو توسعنا في القول بحيث نقول إن الرمز - كائنا ما كان - إذا أريد به أن يشير إلى مرموز إليه، كانت المنفعة هي أساس استخدامه، وأما إذا أريد به أن يكون نهاية في ذاته ولا يرمز إلى شيء سواه، كانت النشوة الجمالية هي أساس استخدامه. أقول إننا إذا أطلقنا القول على هذا النحو الواسع، جاز لنا أن نقول إن ثقافة الغربي هي ثقافة المنتفع، وثقافة الشرقي الأصيلة هي ثقافة المخمور بعاطفته المنتشي بوجدانه، فالأولى هي ثقافة العالم، والثانية هي ثقافة الفنان.
وإن خير وسيلة تدرك بها الفرق الشاسع بين الثقافتين، هي أن تقلب النظر في نماذج تمثل كلا منهما: فقارن مثلا بين رجل يقول وهو يتحدث عن حقائق الكون: «إن الأجسام تتجاذب بنسبة تطرد مع حاصل ضرب كتلتي الجسمين المتجاذبين، وبنسبة عكسية مع مربع المسافة بينهما.» أو يقول: «إن ضغط الغاز مضروبا في حجمه يساوي مقدارا ثابتا إذا ظلت درجة الحرارة على حالها.» وهكذا قارن هذه الأقوال وأمثالها بأقوال الحكيم الشرقي وهو يعلم تلميذه حقيقة الكون:
إذا قطعت هذه الشجرة عند جذورها، فإنها تقطر لأنها حية، وإذا قطعتها عند وسطها، فإنها تقطر لأنها حية، وإذا قطعتها عند قمتها، فإنها تقطر لأنها حية ... أما إن خرجت الحياة من أحد فروعها فإنه يذوي ... فاعلم كذلك أن هذا الجسد مائت ولا ريب إذا خرج منه الواحد الحي، ولكن الواحد الحي لا يموت، ومن جوهره الدقيق جاء الوجود، إنه الحق، إنه الروح، إنه أنت.
وفي درس آخر يقول الحكيم نفسه إلى تلميذه:
الحكيم :
ضع هذه القطعة من الملح في الماء وعد إلي غدا.
التلميذ :
قد وضعتها ...
الحكيم :
Halaman tidak diketahui