وكانت ميمونة قد رأت الأمير عبد الرحمن عند وصوله إلى هناك، وعلمت أنه رأى جواد هانئ ورأته، يخاطب أحد غلمانه ويشير إلى ذلك الجواد، فدخلت وجعلت تتنسم ما عساه أن يكون من أمره بعد أن يرى القهرمانة ومريم ومعهما هانئ، فشعرت أنه لقيهما خارجين من تلك الحجرة، وسمعت ما دار بينه وبينهما فظنته لم يلحظ اجتماعهما فعزمت على التصريح بذلك.
أما عبد الرحمن فمشى يلتمس حجرة ميمونة والخدم يتناثرون بين يديه تهيبا، أو يقفون له وقارا، حتى اقترب من باب الحجرة فتظاهرت ميمونة أنها قلقت لإبطائه في الوصول إليها، فأسرعت إلى الباب وهي تبدو كأنها كانت في انتظاره على مثل الجمر، فلما أقبل حيته وتأدبت وعيناها تنظران إليه نظر المحب العاشق بلا تصنع مع أنها غير عاشقة، وإنما كان ذلك منظر عينيها لما فيهما من اللمعان مع ما تتكلفه من إظهار الوجد بالابتسام والإطراق فينخدع الناظر إليها ويحسبها متفانية في حبه، ولا سيما إذا كان هو يحبها، أما عبد الرحمن فكان يستلطف ميمونة كثيرا ويحب قربها، ولكنه كان ينظر إليها نظره إلى بعض جواريه، وكان من جهة أخرى قد عاهد نفسه على ألا يقرب النساء حتى يفرغ من تلك الحرب ويقطع نهر لوار، فضلا عن اشتغال خاطره بمهام الفتح عن مجالسة النساء ومسامرتهن، ولذلك قلما كان يأتي إلى الخباء، وإذا أتاه خص ميمونة بلطفه ومداعبته وذلك لغرض في نفسه لم يكاشف به أحدا، وربما كانت قد أدركت غرضه ثم تجاهلته، أو أنها تظاهرت بأنها تفعل ما يريده هو وتبتغي من ورائه مأربا لو تصوره عبد الرحمن لعجل بها إلى الفناء.
الفصل الحادي والعشرون
المكر المتبادل
علمت مما تقدم أن ميمونة سبية إفرنجية كانت في جملة خدم لمباجة بنت الكونت أود حاكم تلك المقاطعة في فرنسا، وقد سبيت في جملة غنائم المنيذر الإفريقي زوج لمباجة المذكورة، وكان أهل الخباء يعتقدون أن ميمونة كانت من خاصة نساء لمباجة وأقرب المقربات إليها، فكان عبد الرحمن يرجو الانتفاع من ذلك في بعض المخابرات مع أود أو بعض قواده ولكنه كتم هذا الأمر في نفسه ولم يظهره حتى ولا لهانئ، فلما بعثت ميمونة إليه في ذلك الصباح أسرع إليها على عجل يتوقع منها خبرا يتعلق بالحرب من قبيل ما تقدم.
فلما رآها على تلك الصورة خيل له أنها تعشقه وتتفانى في خدمته فسره ذلك على أمل الاستعانة بها في تحقيق غرضه، فابتسم لها ودخل حتى جلس على وسادة هناك وهو يقول: «ما الذي تريدينه مني يا ميمونة؟»
فقالت وهي تحاول الجلوس بتأدب: «أريد أمورا كثيرة، يا مولاي، لا أدري أيها أقوله أولا.» قالت ذلك وتنهدت وأنزلت دمعتين رآهما عبد الرحمن تتساقطان على خديها وهي مطرقة تظهر أنها استحيت من افتضاح سرها بهما .
فانخدع عبد الرحمن، ولكنه أجابها على الفور: «لا أرى حاجة إلى ذلك وأنت تعلمين ما عاهدت عليه ربي منذ عزمت على هذه الحرب.»
فأسرعت في الجواب كأنها تريد إصلاح ما تبادر إلى ذهنه مما عسى أن يكون قد فهمه خطأ فقالت: «لا يتوهم مولاي أني أطمع في غير رؤية هذا الوجه الصبوح، ولكني مخطئة في التطاول إلى ما لا أستحقه، فإن في خباء مولاي الأمير عشرات من أمثالي وليس بينهن من تجرؤ على هذه الكلمة، أما أنا فلا أدري ما الذي جرأني عليها، فهل دلني قلبي على الصواب أو لعله خدعني؟ لا أدري، وعلى كل حال يكفيني أن يكون الأمير عالما بما له في القلب من الحب الشديد، على أني لا أكلفه مثله أو جانبا منه؛ لأن الحب لا يكون قهرا.» قالت ذلك وغصت بريقها وسكتت.
وكان عبد الرحمن يعتقد أن ميمونة تحبه، ولكنه لم يسمع منها مثل ذلك العتاب قبلا، فتبادر إلى ذهنه أنها اندفعت إلى العتاب غيرة عليه من مريم، والغيرة تفعل العجائب فأراد أن يتأكد من ذلك فقطع حديثها قائلا: «هل رأيت الضيفة الجديدة؟»
Halaman tidak diketahui