أما بسطام فإنه رد الخنجر إلى مكانه ووثب إلى جواده فركبه، واستحثه نحو الساحة، وكان قد علم بمكان الفتاة ورفيقتها فسار توا إليهما، ولم يمر بهانئ ولا خاطبه في هذا الشأن، وكان هانئ لا يزال إلى ذلك الحين مشتغلا ببيع السبايا.
فلما فرغ من مساومة اليهود، ساق جواده نحو الفتاة وهي على مسافة ميل وبعض الميل منه والشمس قد توارت وراء أبنية بوردو، واختلطت ظلال تلك القصور حتى صارت ظلاما خيم على الغالب والمغلوب والقاتل والمقتول، خيم على المسلمين وقد اشتدت عزائمهم بما أوتوه من النصر، فاشتغلوا باقتسام غنائمهم، وعلى المغلوبين من أهل بوردو وقد غلبوا على ما في أيديهم فقتل رجالهم وسبيت نساؤهم ونهبت بيوتهم ومعابدهم.
ولولا اشتغال هانئ بما جاش في فؤاده من عوامل الغرام وما غشي بصيرته من عواطف الشباب لاعتبر بما كسا أفق بوردو من الشفق وقد اشتد احمراره حتى ليحسبه الناظر إليه رمزا للدماء التي سفكت في ذلك اليوم هناك ولكنه كان مشتغل الخاطر بشيء لا يعرفه غير الذي يعانيه - وهو الحب - ومن غريب أمر الحب أنه يقع على الناس وقوع السبات من حيث لا يعلمون، وربما كان الباعث على وقوعه نظرة واحدة، فلا تكاد تلتقي العين بالعين حتى تجيش العواطف وتتجاذب القلوب تجاذبا لا سبيل إلى دفعه، ولا يحدث ذلك عند كل نظرة ولا في كل إنسان وإنما هو تأثير بعض العيون على بعض القلوب، فإذا تفاهمت العينان استيقظ القلبان وتجاذبا كأنهما كانا على ميعاد ثم تاها، وكل منهما يبحث عن رفيقه، ثم التقيا بغتة وتعارفا بالنظر.
الفصل الخامس
التنازع
كذلك حدث لهانئ، فإنه لم يكن يعرف تلك الفتاة قبل ذلك اليوم فوقع نظره عليها للمرة الأولى وهو واقف بباب المدينة يراقب إخراج الغنائم والسبايا ويحصيها، وكانت الفتاة في جملة الخارجين وقد ساقها بعض البرابرة من رجال بسطام بإشارة منه كما تقدم، فرآها هانئ تمشي بثوبها ونقابها الأسودين وتحت النقاب الضفيرتان المرسلتان على صدرها وقد أطرقت لا تلتفت يمينا ولا شمالا، ورفيقتها بجانبها، فلما بلغت الفتاة إلى عتبة الباب سمعت هانئا ينادى كاتبه ويسأله عن عدد الذين خرجوا إلى ذلك الحين ثم قال له: «لا تحص هذه الفتاة في جملتهم.» فوقع صوته في أذنيها وقوع السهم في قلبها، فلم تتمالك أن رفعت بصرها إليه وحدقت فيه، فقرأ في تلك النظرة ما يعجز الخطيب عن أدائه في خطاب، ولا يستطيع الكاتب التعبير عنه في كتاب قرأ فيها الاستعطاف والاستنصار والحب والاستسلام مع الأنفة وعزة النفس، فأجابها بنظرة قرأت فيها جوابا صريحا على ما يتمناه قلبها فاطمأن بالها حدث ذلك كله في لحظة والناس حولهما في غفلة بين باك، ونادب، وراج، وخائف، أما هانئ فقد وقع نظره عليها فصمم على أن يستأثر بها لنفسه، ثم أكبر أن يتخذها سبية لما آنس من هيبتها وجمالها، فعزم على أن يتزوجها، ولم يكن قد تزوج ولا حدثته نفسه بالزواج إلى ذلك الحين لاشتغاله بالجهاد من نعومة أظفاره في بلاد الإفرنج التماسا لفتح أوروبا، ولذلك فإنه حينما دعاه عبد الرحمن إلى تلك الحرب لبى سريعا، فلما أحس بقلبه يتحرك لم يصبر عن التفكير في الزواج والكثرة في طالبي الزواج أن يلتمسوه على هذه الصورة فربما قضى أحدهم الأعوام الطوال وهو لا يفكر في الزواج ولا يسعى إليه، فإذا تحرك قلبه بنظرة أو كلمة بذل جهده في سبيله، ولذلك استبعد هانئ الفتاة وبعد الفراغ من البيع سار كي يتسلمها بنفسه ولم يعهد بذلك إلى أحد من رجاله مبالغة في الحرص عليها.
فلما ثنى عنان جواده نحو ذلك المكان، رأى بالقرب منه فارسا عرف - في نور الشفق - من شكل الفرس وعدته أنه بربري، فاستحث جواده وهو مطمئن الخاطر على حبيبته لعلمه أنه ليس في جند المسلمين من يجسر على مخاطبتها بعد أن أمر هو بإبعادها، ولكن الغيرة من أقوى مظاهر الحب ومن أكبر الأدلة عليه، وهي عمياء صماء لا تذعن للعقل ولا تصغي لنصحه، فركض هانئ فرسه وقلبه يخفق غيرة، وما لبث أن رأى الفارس قد وقف بجانب الفتاة وسمعه يهدد ويتوعد فساق جواده حتى تطايرت أطراف عباءته في الهواء، وقبل أن يصل إليهم عرف الفارس فناداه: «بسطام!» فالتفت بسطام وعيناه تقدحان شررا وهو يقول: «ما بالك أيها الأمير؟»
قال: «تنح عن هاتين فإني قد أخذتهما لنفسي.»
قال بسطام: «وكيف تفعل ذلك وهما غنيمتي؟»
ولو لم يكن هانئ قد تعلق بالفتاة وعشقها لما جادله عليها، ولكنه توقع أن يسترضي بسطاما من باب آخر، لعلمه بشره هؤلاء البرابرة للمال والغنائم فابتسم وهو يقول: «هب أنهما غنيمتك ورأيتني أريدهما لنفسي، ألا تتجاوز عنهما لي، ولك علي ما تطلبه من نصيبي في الغنائم.» قال ذلك وهو يتشاغل بتسوية عرف جواده إظهارا للاستخفاف بالمسألة وإخفاء لما ثار في قلبه من عوامل الغيرة.
Halaman tidak diketahui