Sharkh Bukhnir Mengikut Madzhab Darwin
شرح بخنر على مذهب دارون
Genre-genre
وللإنسان إخوة كثيرون لا يزالون متأخرين جدا، فلا يظن من كان بالغا شيئا كبيرا من الارتقاء أن ذلك موهبة مجانية معطاة له من فوق، بل فليعلم أنه نتيجة تربية متمهلة وارتقاء صعب، وعلمه هذا أعظم منشط له يحثه للسير في هذا السبيل. ولا يعلم إلى أين يبلغ به هذا الارتقاء، على أنني متيقن بأنه لا يوجد أمر مستحيل على الإنسان إذا أحسن استعمال ما فيه من القوى، وما له من العقل، فتزداد قابليته، ويتسع نطاق سلطانه على الطبيعة إلى ما وراء الحد الذي يظهر أنه مفروض له الآن.
وقبل الفراغ من هذا الموضوع لا بد لي من بسط الكلام قليلا على رأي أحد علماء الإنكليز «ألفرد ولاس» في مستقبل الإنسان، وهو قريب جدا من دارون في المبدأ والأفكار، قال: «إن الإنسان في أول أمره وقبل أن تنمو قواه العقلية، إذ كان بلا ريب يقطن الأماكن المحرقة في المنطقة الحارة في زمن الأيوسن والميوسن،
23
كان خاضعا للانتخاب الطبيعي كالحيوان، ثم لما أخذ عقله ودماغه وقواه الاجتماعية ترتقي أخذ يتخلص أيضا من فعل هذا الناموس. وربما لم يتغير في جسده من بعد أن صار قادرا على التكلم؛ لأن التكاثف الذي يحصل في الجمعية وتهيئة الكساء والأسلحة والمساكن، كل ذلك قوي به الإنسان على مقاومة الأحوال الخارجية إلى حد معلوم، فأضعف فعل تنازع البقاء فيه بحماية الضعيف منه، والاعتناء به عوضا عن قتله، وسهل لقليل النشاط سبل الكسب في الحياة الاجتماعية إذ قسم الأعمال، فالإنسان يداوي المريض، ويعتني بالمسكين عوضا عن أن يتركهما ليهلكا كما يفعل الحيوان، كل ذلك يجعله في حالة موافقة لطبيعة ما يحيط به بدون أن يتغير جسده تغيرا جوهريا.
وأول ما اتخذ جلد الحيوان كساء واصطنع السهم للصيد وبذرت الحبوب وزرع النبات، حصل في الطبيعة ثورة عظيمة لا مثال لها فيما تقدم من تاريخ الأرض؛ إذ ظهر فيها كائن لا يلزمه أن يتغير ضرورة مع العالم، له سلطان على الطبيعة، وإن كان محدودا؛ لأنه يدرك عمله ويزنه ويتفق معها لا بتغيير جسده، بل بتقدم في عقله.
ولا يقتصر الإنسان على الخروج بنفسه من تحت حكم الانتخاب الطبيعي، بل يخرج معه غيره أيضا من تحت حكمه، وسوف يأتي زمن لا يبقى فيه سوى الحيوانات الأهلية والنباتات المزروعة؛ إذ يقوم فيه الانتخاب الصناعي مقام الانتخاب الطبيعي إلا في البحر.
على أن ما تحرر الإنسان منه جسديا لا يزال يفعل فيه عقليا؛ ونتيجة ذلك أن الشعوب التي ترتقي بعقلها فوق غيرها، تبقى وحدها أخيرا إذ تلاشي غيرها، وتحكم على الأرض حتى لا يبقى إلا شعب واحد أضعف أفراده عقلا يعادل أكبر عقولنا، وربما كان أعلى منه أيضا. وكل واحد حينئذ يجد أن سعادته قائمة بسعادة قريبه، وتكون الحرية كاملة إذ لا يتعدى الواحد على الآخر، ولا يعود لزوم للشرائع الصارمة، وتقوم مقامها الجمعيات الاختيارية للقيام بالمصالح العمومية المفيدة؛ حتى تستحيل الأرض أخيرا من وادي البكا وميدان المطامع غير المرتبة إلى فردوس جميل لم يخطر على قلب ملهم، ولا تصوره فكر شاعر.»
فهذا المذهب الذي لا أسلم به كله حرفا بحرف، والذي لم أبسطه هنا إلا إجماليا، إذا كان صحيحا فلعل فيه ما يعوض على الإنسان في مستقبله ما قد خسره من أصله بإطلاق مذهب التحول عليه. ولئن لم يكن فيه شيء يجعل فينا أملا بأن سنصير يوما ما ملائكة بأجنحة، إلا أن نظرنا به إلى مستقبل الجنس البشري أرضى حينئذ لكبريائنا من النظر إلى ماضيه في كل حال.
المقالة الخامسة
إني أبسط في هاتين المقالتين الأخيرتين الرابط الذي يربط مذهب دارون بالرأي المادي وبالفلسفة المادية للماضي والحال. وهذا الارتباط واضح كما أنه طبيعي. والإنسان إذا تأمل قليلا بنفسه وبالأشياء التي تحيط به، فأول ما يعرض له بعد السموات والأرض هو نفسه وعالم الأحياء الذي يقرب منه، وأول سؤال يخطر له هو هذا: من أين أتت هذه الأحياء؟ وكيف أتت؟ ومن خلقها؟ والإنسان الذي هو سلطان الأرض وأكمل المخلوقات من أين أتى هو أيضا؟
Halaman tidak diketahui