وأما أنه ليس المعرفة وحدها، فيدل عليه قوله تعالى: ?الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم? [البقرة: 146، الأنعام:20]، فإن أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بنعته ومبعثه واسمه معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص، كما يعرفون أبناءهم لا يشتبه عليهم أبناءهم من بين الصبيان، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لعبد الله بن سلام: قد أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: ?الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم? [البقرة: 146، الأنعام:20]، فكيف يا عبد الله هذه المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام: يا عمر، لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني إذا رأيته مع الصبيان يلعب، وأنا أشد معرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم مني بابني. فقال عمر رضي الله تعالى عنه: وكيف ذلك يا ابن سلام؟ قال: لأني أشهد أن محمدا رسول الله حقا ويقينا، وأنا لا أشهد بذلك على ابني، لأني لا أدري ما أحدث النساء، فلعل والدته قد خانت. فقبل عمر رضي الله تعالى عنه رأسه، وقال: وفقك الله يا ابن سلام، فقد صدقت وأصبت (1) ومع ذلك ما كانوا مؤمنين حيث لم يصدقوا. وقال تعالى: ?وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم? [النمل: 14]، وقال: ?فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين? [البقرة: 89].
واعلم أن تحقيق معنى قولنا: «الإقرار شرط إجراء الأحكام» هو أن الله تعالى خلق الإنسان ضعيفا لا يستقل بأمر معاشه، محتاجا إلى تعاضد وتعارض وتعاون وتعاوض (1)، ولا يتيسر إلا بتعريف ما في نفسه من المقاصد والحاجات لصاحبه بطريق، كإشارات أو أمثلة أو كتابة أو ألفاظ تكون علامات للمقاصد الباطنة، وكانت الألفاظ أسهل، لأنها أصوات مقطعة هي كيفيات مسموعة حادثة من إخراج النفس الضروري الممتد من آلة التنفس دون تكلف اختياري يحدث عند الحاجة وينعدم عند عدمها، وأفيد لأنها يعبر بها عن الموجود والمعدوم والمعقول والمحسوس والغائب والشاهد، بخلاف الإشارة والمثال، إذ لا تمكن الإشارة إلى المعدوم والمعقول والغائب، وليس لكل شيء مثال. فأنعم الله تعالى على العباد ولطف بهم بإحداث الموضوعات اللغوية بأن وضع الألفاظ بإزاء المعاني ووقفهم (2) عليها أو بإحداث قدرتهم عليها على اختلاف الرأيين، ليتوصلوا بها إلى تحصيل مقاصدهم (3).
Halaman 45