بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله الواهب من غير منن، ومكمل النفوس بالعقول بعد ركوبها بالبدن، وهادي عباده بإنهاج الشرائع لهم وبتأديبهم بالسنن، متما للنعمة عليهم بتتابع الداعين إليه في كل عصر وزمن، بحيث لم يخل آن من الأوان عن ولي مؤتمن، ونشهد أن لا إله إلا الله شهادة من أقر وأذعن، والصلاة والسلام على الهادين بعد الهادين، الرسل المكرمين، الأولياء الصالحين، سيما من ختم به الولاية والرسالة أفضل المصطفين من المقربين والمرسلين، وأكرم خلق الله أجمعين، محمد المبعوث لتكميل الخصلتين، وخلفائه الراشدين، وأوصيائه المرضيين، علي أمير المؤمنين، وأولاده الأنجبين الأطيبين، الهداة المهديين، الذين هم أعلام الدين، ومنار المهتدين، وأسبق السابقين، صلاة متتابعة خالية عن حد وعد، من الأزل إلى الأبد، اللهم اجعلني من شيعتهم، واحشرني في زمرتهم، بحقك العظيم عليهم، آمين رب العالمين.
وبعد، لما كانت الرسالة التي كتبها - لذوي الحاجة من الأخيار - الغائص في بحار الأخبار، وناثر الجواهر التي أفادها عند سيره في الآثار المأثورة من الأئمة الأطهار، وتتبعه للقواعد المحكمة التي أسسها علماؤنا الأخيار، ذو الذوق السليم والفهم المستقيم، المتسابق مع الأقدمين، والسابق على المتأخرين، أفضل المتبحرين، وأكمل فقهائنا الراشدين، شيخنا ومولانا الشيخ محمد حسن النجفي،
Halaman 13
من أحسن المتون الفقهية جمعا، وأعلاهم (1) متانة، سيما بعد تزيينها بحلية الاحتياط، وتقليدها بقلادة الدرر المنثورات، من الأستاذين الماهرين، والسيدين السندين، مهذبي مطالب الفقه والأصول، جامعي شتات المعقول والمنقول، كاشفي رموز المسائل، وموضحي المعضلات بالبرهان والدلائل، ناقدي الخالص عن الغش، ومميزي الثمين عن الغث، أسبقي المتقدمين، وأفضلي المتأخرين، وهما شيخنا الأجل ومولانا الأفخم الشيخ مرتضى الأنصاري، وسيدنا الأكرم ومولانا الأعظم المعظم السيد ميرزا حسن الشيرازي، جعلتها تبصرة لنفسي، وتزكية لعملي، فراجعتها رجوع المستنبط، وغوصت في مطالبها غوص تدبير وتحقيق، تصحيحا لعملي، واختبارا لمقدار وسعي.
وأنا أقل الأقلين وأحوج المحتاجين، أبو طالب الكزازي.
حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.
Halaman 14
قوله (قدس سره):
(كتاب الطهارة) الكتاب في اللغة: مصدر ثالث لكتب كنصر، بمعنى خط وجمع كما عن القاموس والصحاح ومختار الصحاح، والمصدران الأولان الكتب والكتابة كما عن الأولين، أو والكتبة بفتح الأول والآخر وكسر الوسط كما عن الأخير. ولعل من عد الكتاب رابعا صحح أصالة مصدرية الكتابة والكتب معا، لا كما عن مختار الصحاح من جعل الثاني بدلا عن الأول كما قد يتخيل.
أقول: الأقوى - مع تصحيح استعمال الكتبة مصدرا - جعلها رابع مصادر الباب، لأنها أندرها قياسا واستعمالا، كما لعله إليه نظر الأولين في عد الكتاب ثالثا، وإن كان الأحسن عده ثانيا، فإن الكتابة ليست غيره، بل هي هو بزيادة التاء المصدرية، وهذا لا يوجب التغاير والاثنينية.
وكيف كان فهو هنا بمعنى المفعول أي المرسوم، أو المجموع من مسائل الطهارة، فإنه يعبر عن مجموع مسائل متحدة بالجنس مختلفة بالنوع بالكتاب عند أهل العلم، كما يعبرون - غالبا - عن المتحدات بالنوع المختلفات بالصنف بالباب والمقصد والفصل، وعن المختلفات بالشخص، والمتحدات بالصنف بالمطلب.
والطهارة: مصدر طهر - بالضم والفتح - كالطهر - بالضم - على ما يظهر من محكي القاموس والطراز.
Halaman 15
ومعناها: النظافة والنزاهة عن الأقذار، كما عن الطراز طهر: أي نظف ونقي من النجس والدنس، وهو المناسب لما استعيرت له من التمحيص من الذنوب وسوء الخلق، والحيض، كما في الكتاب في آية تطهير أهل البيت: يريد الله أن يطهركم ويذهب عنكم الرجس (1)، وفي قوله تعالى: " وأزواج مطهرة " (2)، وكذا غيرهما من الآيات.
ولكنها في كلام الفقهاء أطلقت على خصوص الغسل والوضوء والتيمم، بل يظهر من تعبير جمع بأنها اسم لهذه الثلاثة صيرورتها حقيقة شرعية في هذا المعنى، وربما يومئ إلى مقبولية النقل عندهم تعريفهم إياها بما يشمل الثلاث، وإتعاب أنفسهم في إخراج ما عداها، وما ذكروه في نقض التعريف وإبرامهم في تصحيحه، ومسلمية النقل في ألسنة الفقهاء. قريبة من الصواب، بل غير بعيد دعوى النقل إليها في العرف، كما يشهد له الآيات الشريفة من قوله تعالى: " إن كنتم جنبا فاطهروا " (3)، وقوله تعالى: " فإذا تطهرن " (4)، وإن أمكن جعل إرادتها منها من باب الانصراف وعدم ذكر القيد.
وعن شاذ: كونها علما للأعم منها ومن التطهير عن الخبث.
والأقوى خلافه، ولا أرى للخوض فيه كثير فائدة بعد مسلمية الظهور، إما من باب النقل، أو من باب الانصراف.
قوله (قدس سره): (وفيه مقدمة، وثلاثة مقاصد، وخاتمة).
(أما المقدمة ففيها) (5) يذكر ما حقه أن يذكر فيها، ولذا جعل فيها بيان أقسام المياه، وبيان أحكامها، وكيفية التخلي، فإنها من مبادئ الطهارات الثلاث.
Halaman 16
أما المقاصد الثلاثة، ففي بيان الطهارات الثلاث.
وأما الخاتمة ففيما يتعلق بختم المسائل من بيان النجاسات والمطهرات وأحكامهما، وأحكام الأواني.
قوله (رحمه الله): (الماء المطلق: هو الذي تفضل الله به على الناس بجعله بجميع أقسامه طاهرا مطهرا... الخ) اكتفى بذكر الأحكام واللوازم عن التعريف، لكفاية هذا المقدار فيما الفقيه بصدده، ولأنه من أوضح المفاهيم العرفية على ما اعترف به هو والشيخ الأستاذ - طاب ثراه - بل عنه في جواهره أنه لا لفظ أوضح منه حتى يعرف به. وتعبير جماعة في مقام التعريف: الماء ما سمي ماء مطلقا، كما في الدرة إشارة إلى هذا أيضا، أي وضوح هذا المفهوم عند العرف، هذا.
مع أنه لم يعلم منهم أنهم في صدد تعريفه، بل الظاهر أنهم في مقام تمييز ما هو الموضوع المحمول عليه الأحكام المخصوصة المذكورة في الفقه، كما يومئ إليه التقييد المشار إليه هنا، بأن ما لا يستحق إطلاق اسم الماء عليه على الإطلاق ليس بمطهر مطلقا وإن قيل بالمطهرية في بعض أفراده، كما سيأتي، مع الحكم بنجاسة كثيره كقليله بملاقاة النجس.
وبالجملة: مطهرية الماء المطلق لكل متنجس قابل للتطهير هو المستفاد من الكتاب والسنة، وإفادة لفظة " الطهور " المطهرية هو الذي ادعي اتفاق أهل اللغة عليه، وإن كان هو خلاف المفهوم من هذا الوزن مع صوغه من اللازم.
ولعله لذا بعضهم ادعى النقل إلى هذا المعنى، وهو غير محتاج إليه، لكفاية إرادة المبالغة منها في إفادته، إذ معناه اللازمي غير قابل للازدياد إلا بإرادة سراية الطهارة من الماء إلى غيره.
ويؤيده وروده في قوله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " (1) مورد الامتنان المتمم كما له بإرادة المطهرية منه، لأنه محل الحاجة كثيرا ، بل قيل:
Halaman 17
يتوقف أصل الامتنان عليه، فإن نفس الطهارة لا امتنان فيه، وإن كانت هي أيضا محل الحاجة، لكفاية أصالة الطهارة فيها، مضافا إلى عدم تعقل الزيادة فيها، فلا يناسب التعبير عنها بتلك اللفظة، سيما في الكتاب العزيز، خصوصا مع وجود اللفظة المفيدة لها وضعا، الشائع استعمالها فيها عرفا، وهو لفظة " طاهر ".
ويشهد لإرادة المطهرية منها قوله تعالى: " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان " (1) الشريك معه في الورود مورد الامتنان.
وبالجملة: إفادة تلك اللفظة المطهرية مسلمة عند أهل اللغة، والعرف، وأئمة التفسير، وهو المجمع عليه عند القوم أيضا، وعليه فلا ينبغي الإشكال في البناء على حصول الطهر لكل ما استعمل فيه الماء من المتنجسات إلا ما خرج، والحكم على المشكوك بقبوله التطهير لذلك لمسلمية العموم في المستعمل والمستعمل فيه مطلقا، بل والكيفية، لأن المرجع فيها العرف كما صرح به الأستاذ في شرح الإرشاد (2).
وحينئذ فما في الجواهر من: أنه لو سلمنا شموله للمطهرية، لكن لا يكفي ذلك في بيان كيفية التطهير، ولا عموم يرجع إليه، فعمومها غير مفيد شيئا، انتهى. فيه ما عرفت من محكمية العرف في بيان الكيفية، ولا حاجة إلى وصول بيان لها من الشرع، فالعموم تام الإفادة.
وأعجب منه ما في شرح إرشاد الأستاذ من منعه العموم من غير جهة الكيفية بملاحظة حصره منشأه في قوله (عليه السلام): " الماء يطهر ولا يطهر " (3) من باب حذف المتعلق، ثم منعه لتلك الإفادة بلحاظ أن قوله: " يطهر " وقع في قبال السلب الكلي الكافي في رفعه الإيجاب الجزئي، فمفاد الخبر أن المطهرية - بالكسر - ثابتة له في الجملة، وليست مثل المطهرية - بالفتح - مسلوبة عنه كلية، وفيه كفاية استفادة
Halaman 18
العموم من لفظة " الطهور " الواقعة في الآية الشريفة، من باب حذف المتعلق أيضا، سيما مع ملاحظة ورودها مورد الامتنان المنافي للإهمال، هذا.
مضافا إلى أن ما ذكره في الخبر الشريف أيضا غير تام في نظري القاصر، إذ السلب إنما هو باعتبار غير الماء من المطهرات، لوضوح حصول الطهر له به وبالمطر الذي هو أيضا فرد منه. فمفاد الخبر أنه يطهر غيره ولا يطهره غيره، ومن الواضح إفادته للعموم حينئذ فلا تغفل ولا تتعسف.
فإذا الأقوى أن استعمال الماء بالشروط المفصلة - المبينة في محالها - مزيل لكل قذارة حدثية وخبثية، إلا ما ثبت عدم قابليته للرفع بدليل خاص، بمعنى أن المقتضي للرفع بملاحظة نفس استعمال الماء موجود ما لم يمنعه ثبوت عدم القابلية في المحل، أو وجود مانع آخر ثمة، ولو بلحاظ خصوصية في الكيفية ثابتة لمحل مخصوص.
هذا كله مضافا إلى الأخبار الخاصة الواردة في التطهير، فإنها تفيد عموم مطهرية الماء بلا خفاء.
ثم إنه قال في الجواهر: " إنه لا ريب في أن حمل الطهور على المطهرية بالمعنى الشرعي ليس معنى لغويا، بل هو إما أن يكون من باب النقل الشرعي، أو المجاز " وقوى هو (قدس سره) النقل، ثم فرع عليه ممنوعية إرادة المطهر من الأحداث والأخباث معا منه، لتصريح القوم بأن استعمال لفظ " الطهارة " في الثاني مجاز، فيلزم استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، لعدم قرينة على إرادة عموم المجاز منه.
وأنت ترى ما فيه، لأن الحقيقة الشرعية - على فرض تسليمها - إنما قال به من قال في خصوص لفظة " الطهارة " لا في هذه المادة بما اشتقت منها من الهيئات، مضافا إلى منافاة ما ادعاه (قدس سره) في خصوص لفظة " الطهور " من أهل اللغة وأئمة التفسير، فليس حينئذ إرادة المعنى الشرعي منه إلا من باب الانطباق على المعنى اللغوي الكلي.
قوله (قدس سره): (وانه لا ينجسه شيء مما لاقاه - إلى قوله - أو كان راكدا دون
Halaman 19
الكر) يظهر من عطفه الراكد القليل على المتنجس بالتغيير اثنينية أقسام الماء عنده باعتبار هذا الحكم - وهو الاعتصام وعدمه - في الدافعية، والمصرح به في كلمات القوم - ومنهم هو في جواهره - تثليث الأقسام: جار، وبئر، ومحقون.
والأظهر عندي بملاحظة العصمة دفعا ورفعا وعدمها كذلك والاختلاف فيهما هو تربيع الأقسام، فالمعصوم من الجهتين هو: الجاري، وماء المطر حال نزوله، والبئر على الأقوى. وغير المعصوم كذلك هو: الراكد دون الكر عند المشهور.
والمعصوم رفعا لا دفعا: النابع غير الجاري عند بعض، على تفصيل يأتي. وعكسه الكر.
وكيف كان: الجاري هو السائل عن مادة نبعية، فلا يكفي مطلق السيلان ولا مجرد النبع بدونه، لعدم مساعدة العرف الذي به يستكشف عن المعنى اللغوي عليه، ولصحة السلب عن السائل عن كوز ونحوه، كعدم الصدق عرفا على نبع لا جري له أبدا.
فما عن الشهيد الثاني من تعبيره عن الجاري بالنابع مطلقا، لا يرى له وجه لو أراد بيان المسمى، وتصحيحه بالغلبة أو باصطلاح عرف جديد سقيم، لعدم مدخلية الغلبة في التسمية، ولانتفاء الاصطلاح بما نشاهده من استقرار العرف على خلافه وعدم إطلاقهم الجاري إلا على سائله.
وكذا لو أراد إلحاقه به في الحكم، لأنه يتم إذا كان اتحاد حكمهما مسلما عند الكل، وليس كذلك، لما عن ظاهر المحقق من حكمه بعدم تطهير القليل منه بالنبع من تحته، معللا بأن النابع ينجس بالملاقاة - وعن كاشف اللثام - جعله أوضح الاحتمالين. وعن المقنعة - كما عن التهذيب - انفعال القليل من الغدير النابع وتطهيره بالنزح وعدم انفعال الكثير منه، بل عن مفتاح الكرامة أنه حكى عن المحقق البهبهاني (رحمه الله): أن النابع الراكد عند الفقهاء في حكم البئر.
وإن كان الأشبه بكلماتهم - كما سيأتي - أنه بحكم الجاري، كما صرح به شيخنا الأستاذ، إلا أنه لا ينفع ذلك في إطلاق الجاري عليه من تلك الجهة،
Halaman 20
مع ما عرفته من الاختلاف فيه، فالأظهر عدم دخوله في الجاري موضوعا كخروج السائل لا عن نبع عنه قطعا، فما عن بعض المتأخرين من تعميمه إليه - مستندا إلى صدق الجاري على الذائب السائل عن الثلج - اشتباه من الإطلاق المجازي التشبيهي على الحقيقي، لما عرفته من صحة السلب عن بعض أفراده بلا تأمل، فيكشف عن أن الإطلاق في المقام ليس إلا لتشبيهه به، لما فيه من الاستمرار زمانا معتدا به، بل في بعض المقامات ليس إلا بمعنى الجري اللغوي، الذي هو الانتقال من محل إلى آخر.
فتنقح أن المحكوم عليه بقوله: " وأنه لا ينجسه شيء مما لاقاه من نجس العين إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه تغيرا حسيا " هو السائل عن نبع كما قواه في جواهره، وقرره شيخنا الأستاذ - طاب ثراه - في طهارته، وقوى انفعال النابع غير الجاري في حاشية النجاة.
قوله (قدس سره) في كيفية انفعال القليل الراكد: (سواء وردت النجاسة عليه، أو ورد هو عليها، على الأصح) أشار بقوله: " على الأصح " إلى قول العماني والكاشاني والمحدث الفتوني بعدم انفعاله مطلقا، وإلى ما نسب إلى ناصريات السيد وابن إدريس في السرائر من الفرق بين الوارد والمورود باختصاص الانفعال بالثاني، وإلى ما حكي عن الشيخ من عدم الانفعال بما لا يدركه الطرف من الدم.
ولقد أطال في جواهره بذكر الأخبار الدالة على الانفعال، والأخبار التي يمكن أن يستدل بها للعماني مع وجوه أخر له، لا أرى لتعرض الجميع والنقض والإبرام في التصحيح والتزييف كثير فائدة، بعد وضوح المسألة بالإجماعات المحكية، والأخبار المتواترة، بل قيل: إنها تبلغ ثلاثمائة.
ولقد أجاد شيخنا الأستاذ في شرح الإرشاد حيث اقتصر على اللباب بذكر ما هو واضح الدلالة على وجه لا يحوم حول تأويله او لو الألباب. ومن طرف العماني بذكر ما هو ظاهر الدلالة من غير المطلقات، لعدم الجدوى فيها وإن
Halaman 21
وصلت آلافا، لكفاية مقيد واحد لرفعها على ما هو طريق الحق والصواب من حمل المطلق على المقيد، وعدم التماس الترجيح بينهما كالمتباينين.
فمما يدل على انفعال القليل قول الصادق (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم:
" قال: قلت: الغدير فيه ماء مجتمع، تبول فيه الدواب، وتلغ فيه الكلاب، ويغتسل فيه الجنب؟ قال: إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء " (1)، كصحيح معاوية بن عمار (2) الذي هو مثله، فإنهما دلا على أن العصمة في الراكد - الذي هو مورد السؤال - منوطة ببلوغه كرا، فما لم يبلغه لا قابلية له للاعتصام عما يقع فيه مما يقتضي الانفعال وهو ملاقاة القابل للتأثير، فمفهومهما حينئذ انفعال القليل من الراكد، أو مطلقا بناء على أن خصوصية المورد لا تخصص عموم الجواب بكل ما لاقاه مما من شأنه تنجيس ملاقيه، لا لأن مفهوم السالبة الكلية موجبة كلية - ولو في خصوص المقام، باعتبار نفس القضية - لأن الحق في مفهومه - على ما يساعده العرف - هو الايجاب الجزئي، بل لأنه أيضا يكفينا في المقام ردا على العماني، إلا أن لي مقصدا في إثبات العموم أنا مهتم به، لما رأيته من سيد الرياض في سالف الزمان أنه رد بعض فروع المسألة أو استشكل فيه، لنفيه وجود عموم يدل على كلية الانفعال، ليكون المخرج منه أو المخالف له، مما يتوهم فرديته له محتاجا إلى المخرج، بل جعل عدم انفعاله على وفق القاعدة، لنفيه دلالة مثل هذا الصحيح على العموم، وقصره الدليل على الانفعال في الخصوصات التي حسب اختصاصها بموردها من المياه والنجاسات وكيفية الملاقاة.
فمقصودي أن أتمم العموم من الجهات الثلاث لرفع تلك الغائلة، فأقول: إن الخبر الشريف دال بمفهومه القوي على العموم من جهتي النجاسة والكيفية، بل من الجهات الثلاث، بناء على إلقاء الخصوصية لا لما ذكر، بل لما أشرت إليه من دلالة الخبر على وجود المقتضي للتنجيس، وأن الكرية مانعة عن الاقتضاء في خصوص
Halaman 22
الكر ما لم يتغير، لأن الحكم في المنطوق لم يحمل على العموم حتى يكون سلبا كليا، فيكون مفهومه الإيجاب الجزئي، بل الحكم فيه محمول على خصوص النجاسات المعهودة، فكل واحدة واحدة منها بالخصوص نفي تأثيره في الكر لأجل كريته، فإذا كان الحكم في المنطوق على خصوص الآحاد من دون مدخلية للاجتماع فيها يكون مفهومه - لا محالة - رفع ذلك الحكم، فيفيد ثبوت تأثير كل فرد فرد منها في تنجيس الملاقي عند انتفاء الكرية منه، وهذا هو العموم من طرفي الملاقي والملاقى، وعموم الكيفية يأتي من عدم التعرض لكيفية مخصوصة في القضية منطوقا ومفهوما، فيكون محمولا على المتعارف في صدق الملاقاة.
فتلخص أن القضية الكلية إذا كان الحكم فيها محمولا على الأفراد يكون كلية المفهوم فيها على القاعدة، وما نفيناه من عدم ظهورها في ذلك إنما هو بالنظر إلى عدم ظهورها في حمل الحكم فيها على الأفراد، لا مطلقا. هذا كله مضافا إلى أن ما تخيلوه من عدم العموم في المفهوم إنما هو لأجل نكارة لفظة " شيء " الواقعة في المفهوم في حيز الإثبات، فيكون مفادها الجزئية فلا يعم، وهو غفلة عن أن تلك اللفظة كناية عن النجاسات العشر المعهودة، فتفيد بالعموم البدلي الآتي من قبل النكرة الغير المعهودة في فرد خاص أن ملاقاة كل واحدة منها مؤثرة في الانفعال، كما هو قضية إلقاء الخصوصية في المقام، فتدبر.
ومما يشهد على صحة ما ادعيناه قوله (عليه السلام) في خبر معاوية بن شريح حين سأله أبو عذافر عن سؤر السنور والشاة - وأمثالهما مما عده فيه - والسباع، يتوضأ منه؟ فأجابه بنعم، ثم سأله عن الكلب، فقال: لا، فاعترض عليه أبو عذافر، أليس هو سبع؟ قال (عليه السلام): " لا والله، إنه نجس " (1)، فعلم منه أن مناط نجاسة الماء ملاقاته لما هو نجس في الشريعة لا النجاسة القائمة بالكلب.
كما يشهد له أيضا مركوزية انقسام الماء إلى ما ينفعل وما لا ينفعل في أذهان الرواة، من غير خصوصية بنجس خاص.
Halaman 23
وصحيح إسماعيل بن جابر: عن الماء الذي لا ينجسه شيء، قال: " كر، قلت:
وما الكر؟... " الخبر (1).
وكذا مصححه: عن الماء الذي لا ينجسه شيء، قال (عليه السلام): " ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته " (2).
ومثل خبر ابن شريح في الشهادة صحيح بقباق الوارد في سؤر الكلب، قال (عليه السلام): " إنه رجس نجس لا يتوضأ بفضله، واصبب ذلك الماء واغسل الإناء بالتراب أول مرة ثم بالماء " (3).
وصحيح ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): " عن الرجل الجنب يجعل الركوة أو التور فيدخل إصبعه فيه، قال (عليه السلام): إن كانت قذرة فأهرقه، وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه، هذا ما قال الله عز وجل: " ما جعل عليكم في الدين من حرج " (4).
وما ورد في الإناءين المشتبهين من: " أنه يهريقهما ويتيمم " (5). وغير ذلك مما يقف عليه المتتبع في أخبار الباب.
هذا مع دلالة ما ذكرناه من الأخبار شاهدة على ما ادعيناه من اقتضاء ملاقاة النجاسة تنجيس الماء ما لم يحرز فيه عصمة مانعة بمنطوقها على عموم الحكم لكل نجس، وفي بعضها لكل ماء غير عاصم، وفي بعضها بأي كيفية حصلت الملاقاة، كدلالة الخصوصات أيضا بعد إلقاء خصوصياتها، إما بالقطع، أو بالإجماع المركب وعدم القول بالفصل، أو بالقرائن الخارجية - على حسب تفاوت الخصوصيات من الملاقي والملاقاة وكيفية الملاقاة - على أن الملاقاة الغير
Halaman 24
المغيرة في غير الكر أيضا موجبة للتنجيس كلية، كصحيح علي بن جعفر: " في خنزير يشرب من إناء، قال: يغسل سبع مرات " (1). وصحيح محمد بن مسلم: " عن الكلب يشرب من الإناء، قال: اغسل الإناء " (2). وصحيح البزنطي قال: " سألت أبا الحسن عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة، قال (عليه السلام): يكفي الإناء (3).
وعمومه لكل قذارة لا يقبل الإنكار، كما أن خصوصية الإنائية ملقاة قطعا، غاية الأمر اختصاصه بالراكد القليل، وصحيح محمد بن مسلم - وما بمعناه - قد عرفت عمومه من تلك الحيثية أيضا.
وبعد ثبوت هذا العموم قد ارتفعت الأقوال الثلاثة بعدم الانفعال مطلقا أو في الجملة، ولا يهمنا ذكر ما ذكر لها من المستند ورده، لأن شيخنا الأستاذ (قدس سره) قد كفانا مؤنة ذلك في شرح إرشاده بما لا مزيد عليه.
بقي الكلام في بيان كيفية النجاسة بالملاقاة من الوجوه الثلاثة التي ذكرها شيخنا الأستاذ من السراية الحكمية، بمعنى الحكم بنجاسة الجزء الملاقي للملاقاة مع النجس ونجاسة الجزء الملاصق له، لصدق ملاقاته مع ما حكم عليه بالنجاسة، وهكذا إلى أن ينتهي الأجزاء المتلاصقة المتواصلة، لأن ملاقاتها بعضها مع بعض ثابتة لها قبل الحكم وحينه.
والحكم بالنجاسة إذا أتى للجزء الأول - لملاقاته عين النجس - تأتي للأجزاء الباقية، من جهة ملاقاتها لما حكم بنجاسته، وتمامية هذا موقوفة على القول بتصحيح انقسام الشيء إلى جزء لا يتجزأ.
أما على القول ببطلانه فيرد عليه ما أورده الأستاذ من اختصاص الملاقاة بأحد سطحي الجزء، فيختص الحكم بالتنجيس به، ولا يتعدى منه إلى السطح الآخر، فيختص النجاسة حينئذ بالجزء الأول وأحد سطحي الجزء الثاني.
Halaman 25
ودفعه بأن العرف لا يعرف للجزء سطحين رجوع عن هذا الوجه وإبطال له، لأن الرجوع إلى العرف لو كان يجدي لا يبقى احتياج إلى تكلف هذا الوجه، لأنه يحكم بنجاسة ما يراه ماء واحدا بمجرد ملاقاة النجاسة، بعد معرفة أن ملاقاتها توجب الانفعال من دون التفاته واستشعاره إلى ما ذكر، والسراية الحقيقية التي بطلانها غني عن البيان، والتعبد الشرعي الذي لا داعي إلى التزامه بعد محكمية العرف، وحكمهم بالانفعال بمجرد الملاقاة، واستنادهم في حكمهم هذا إلى نفس الملاقاة والاتصال، وعدم فرقهم في حكمهم هذا بين الوارد والمورود، والعالي والسافل.
نعم قد استثني من الكلية المذكورة موارد:
موردان منها إجماعيان، وهما:
ماء الاستنجاء، وسيأتي إن شاء الله.
والجزء العالي الذي قال في بيان حكمه (قدس سره): (نعم العالي منه المتصل بالوارد من الماء على النجاسة مع سيلانه طاهر قطعا) الذي علق عليه الأستاذ بشرط أن يكون العلو تسنيما أو تسريحا يشبه التسنيم، لأنه المتيقن من معقد الإجماع على الطهارة على ما ادعاه الطباطبائي في مصابيحه وبعض أفاضل تلامذته في مقابيسه - على ما حكي - ولأنه الذي يقتضيه ما استند إليه سيد الرياض من عدم معقولية سراية النجاسة من السافل إلى العالي، وإن كان فيه ما لا يخفى، ولأن في التسريح الذي لا يشبه التسنيم يحكم بعصمة الجزء العالي بالجزء السافل، للوحدة فيما إذا بلغ حد الكرية، فليكن في طرف الانفعال أيضا كذلك، أي يحكم بأن نجاسة السافل مستلزمة لنجاسة العالي، لأن مستنده ثمة لم يكن إلا صدق الوحدة، وهي هنا موجودة.
فإن قلت: الوحدة مع التسنيم والتسريح المشبه به أيضا مسلم، فلم لا يحكم بتنجيس تمامه؟
قلت: سيأتي عدم مسلمية الوحدة، ومع تحققها سيأتي عن فاضل الكشف
Halaman 26
أن القاهرية مانعة عن السراية. ولعل ما سمعته من سيد الرياض من عدم المعقولية ناظرة إليه، والعمدة الإجماع كما بينا.
مضافا إلى أن العموم محكم مع صدق الوحدة ما لم يثبت المخرج، فالاستناد إليه أوضح من تجشم هذه الامور، يعني ما ذكر من القياس، كما استند إليه الأستاذ ونقله عن كاشف الغطاء.
وثلاثة منها خلافية:
منها: ماء الغسالة، وسيأتي التعرض له إن شاء الله.
ومنها: ما أشرنا إليه مما نسب إلى السيد من عدم انفعال الماء الوارد على النجاسة.
ومنها: ما عن الشيخ من عدم الانفعال بما لا يدركه الطرف من الدم. ولعله أراد ما يحتاج إبصاره إلى دقة النظر، كما يومئ إليه تعبيره المحكي عن مبسوطه بقوله: " ما لا يمكن التحرز منه مثل رؤوس الإبر من الدم وغيره، فإنه معفو، لأنه لا يمكن التحرز عنه ". وعدم تمامية التعليل بعدم تيسر الاحتراز واضح، لتيسره.
نعم مصحح علي بن جعفر الوارد في خصوص الدم (1) غير خال عن الدلالة، ولكنه غير مقاوم للأخبار الماضية عموما وخصوصا، الدالة على عموم الحكم كعموم معاقد الإجماعات، فلا يمكن رفع اليد عنها بهذا الخبر الغير الواضح الدلالة، المحتمل لإرادة عدم العلم من عدم الاستبانة فيه، كما فهمه منه الأصحاب.
وأما كلام السيد فمحتمل لأن يكون في خصوص ماء الغسالة، كما يومئ إليه تعليله في عبارته المحكية عنه في المقام، قال الناصر: " ولا فرق بين ورود الماء على النجاسة، وورود النجاسة على الماء ". قال السيد: وهذه المسألة لا أعرف لها نصا لأصحابنا ولا قولا صريحا، والشافعي يفرق بين ورود الماء عليها وورودها عليه، فيعتبر القلتين في ورود النجاسة على الماء، ولا يعتبرهما في ورود الماء
Halaman 27
على النجاسة، وخالفه سائر الفقهاء في هذه المسألة. والذي يقوى في نفسي عاجلا - إلى أن يقع التأمل فيه - صحة ما ذهب إليه الشافعي، والوجه فيه أنا لو حكمنا بنجاسة الماء القليل الوارد على النجاسة لأدى ذلك إلى أن الثوب لا يطهر من النجاسة إلا بإيراد كر من الماء عليه، وذلك يشق، فدل على أن الماء الوارد على النجاسة لا يعتبر فيه القلة والكثرة، كما يعتبر في ما يرد عليه النجاسة، انتهى.
فإن قوله: " لأدى ذلك... الخ " يعطي أن مقصوده من الوارد خصوص ما يستعمل في التطهير، ولذا نقل كلامه في التذكرة في باب الغسالة - على ما حكي - بل حكي عن ظاهر الذكرى أن الشهيد قال: إن كلامه وكلام ابن إدريس كلاهما في الغسالة. ويؤيده - أي الاختصاص - قوله: " لا أعرف لها نصا... الخ " والمحكي عن ابن إدريس بعد نقل ما نقلناه عن السيد هو قوله: وما قوي في نفس السيد هو الصحيح المستمر على أصل المذهب.
مع أن فتاوى الأصحاب - بعد ما عرفت من تكاثر الأخبار على انفعال مطلق القليل بالملاقاة، وعموم معاقد الإجماعات - هو عموم الانفعال للوارد والمورود، ولا أقل من معروفية القول بالعموم بين الرواة والمحدثين لما هو مسلم من أن ديدنهم العمل بما في الأخبار، وقد عرفت ظهورها في العموم، فلا يجتمع هذا مع قول السيد: " لا أعرف لها نصا لأصحابنا " فليس إلا مسألة الغسالة كما يشهد له المحكي عن الشهيد بقوله: " والعجب خلو كلام أكثر القدماء عن حكم الغسالة مع عموم البلوى بها ". فيعلم أن قول السيد (رحمه الله): " لا أعرف " إشارة إلى هذا.
كما أن إخراج كلام ابن إدريس عن الكذب لا يكون إلا بهذا، لأن طهارة ماء الغسل شيء يمكن دعوى استمرار المذهب عليه، وكونه فتاوى الأصحاب، لا عدم انفعال الوارد من الماء القليل الذي لا ذكر له في خبر ولا فتوى مفت.
ومما يؤيد اختصاص كلامهما بالغسالة ما حكي عنهما مما يستظهر منه قولهما بالانفعال في الوارد أيضا أو صريح فيه، كقول السيد: " يجوز أن يجمع الإنسان وضوءه من الحدث أو غسله من الجنابة في إناء نظيف ويتوضأ به ويغتسل به مرة اخرى بعد أن لا يكون على بدنه شيء من النجاسة " انتهى.
Halaman 28
فإن ظاهر تقييده الجواز بخلو البدن عن النجاسة، بل ولفظة: " في إناء نظيف " هو نجاسة الماء الوارد على النجس، وخروجه عن قابلية الاستعمال ثانيا.
واحتمل الشيخ الأستاذ - طاب ثراه - كون المنع حينئذ لمنعه عن رافعية الغسالة للحدث، مع قوله بطهارتها. فاشتراط الخلو لئلا يدخل الماء المجتمع في عنوان " الغسالة " الغير الرافعة عنده، مع أنها أيضا طاهرة عنده. ولكن يبعده عدم صدق الغسالة عليه إذا استعمل بقصد رفع الحدث وإن أزال الخبث أيضا تبعا.
وكذا قوله: " في إناء نظيف " الظاهر في نظافته عن النجاسة، لا عن الوسخ.
ونحوه قول ابن إدريس في أول السرائر: " والماء المستعمل في تطهير الأعضاء والبدن الذي لا نجاسة عليه، إذا جمع في إناء نظيف كان طاهرا مطهرا، سواء كان مستعملا في الطهارة الكبرى أو الصغرى على الصحيح من المذهب ".
ولا يحتمل في كلامه هذا ما احتمله الأستاذ في كلام السيد، من كون الشرط لأجل عدم رافعية الغسالة، لأنه (قدس سره) صرح بأن ظاهره رافعية كل ماء طاهر ولو الوارد على النجس على القول بطهارته. وأن مقصوده من كلامه هذا هو الرد على الشيخ المانع من رافعية المستعمل في الحدث الأكبر. وكذا قوله في مسألة الاستنجاء وماء الاغتسال من الجنابة: " إنه متى انفصل ووقع على نجاسة ثم رجع إليه وجب إزالته ". ودعواه الإجماع على نجاسة غسالة الحمام، مع أنها غالبا من المياه الواردة على النجاسة. ورده القول بتعدي النجاسة عن ملاقي الميت إلى ما يلاقيه - كما هو المشهور - بأنه لو كان كذلك لزم نجاسة الماء الذي يستعمله ماس الميت في غسل المس، مع أن المستعمل في رفع الحدث طاهر إجماعا. انتهى. حيث إنه لو كان قائلا بطهارة مطلق الوارد لم يكن وجه لنقضه بالماء الذي يستعمله ماس الميت، لوضوح أن استعماله إياه إنما هو بإيراده على بدنه لا العكس.
هذا كله مضافا إلى أنه لا دليل على التفصيل المنسوب إليهما، ولا مخرج لخصوص الوارد عن تحت العموم المسلم عمومه، كما يشهد لتسليم هذا العموم ذكرهم الموارد المذكورة من ماء الاستنجاء وغيره من مستثنيات تلك القاعدة،
Halaman 29
كما عن الشهيد في الذكرى أنه استثنى الأصحاب من انفعال الماء القليل ثلاثة مواضع. مع أنك عرفت أن لا شبهة في عموم الكيفية عند العرف ومأنوس إليه أذهان المتشرعة بعد معرفة أن الملاقاة مع الرطوبة مؤثرة حتى في الجوامد الرطبة، وأن مستندهم في ذلك ليس إلا مجرد الوصول، غير فارقين فيه بين أنحائه وكيفياته. ومعلوم أن الخلاف في المسألة لا يوهن ما هو محكم عند العرف، ولا يوجب رفع اليد عنه.
هذا كله مضافا إلى ما عرفت من قوة ما يدل على العموم من الصحاح المستفيضة الدالة عليه بالمفهوم عموما، مثل قوله: " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء " (1) بالتقريب الذي ذكرناه من أن المستفاد منه سببية ملاقاة النجاسة للتنجيس، وأن العموم هو المحكم من مثله مما حمل الحكم في المنطوق على أشخاص الأفراد.
ومن خصوص ما ورد منها في خصوص الوارد، كأخبار غسالة الحمام (2) بتقريب ما بيناه في معقد إجماع الحلي فيها، والأخبار الدالة على اشتراط جريان المطر في الحكم بطهارة مائه الوارد على النجس (3) وما دل على وجوب تطهير إناء الخمر لأجل جعل الماء فيه (4)، مع أن المجعول فيه وارد. اللهم إلا أن يدعى أنه لأجل الحكم بالطهارة بعد الاستقرار لا أول الورود، وهو كما ترى. ومثل تعليل خبر الأحول في الحكم بعدم انفعال ماء الاستنجاء بأن الماء أكثر (5) مع أن العلة على هذا القول ورود الماء لا كثرته.
ومثل الإجماع المدعى على انفعال خصوص الوارد، كالذي تقدم عن الحلي
Halaman 30
في غسالة الحمام، وما حكي عن المحقق من الإجماع على نجاسة الماء الذي يغتسل به الجنب - وغيره من ذوي الأحداث - إذا كان بدنه نجسا ولم يغسله قبل الغسل، وما عن التحرير والمنتهى مثله بعينه، كعدم خلافهم في عدم مطهرية الماء القليل الوارد على الماء النجس، فلولا انفعاله به لا معنى لبقاء المورود على نجاسته.
والحال أن الوارد عليه طاهر بعد ملاقاته له، فتبين أن هذا التفصيل أضعف من إطلاق ابن أبي عقيل، وأن الأقوى انفعال الماء القليل مطلقا.
قوله (قدس سره): (ولا عبرة بالتغيير بأوصاف المتنجس... الخ) قد ذكر أن انفعال غير الراكد والراكد الكر إنما هو بتغير أحد أوصافه الثلاثة: الطعم والريح واللون، فأراد أن يبين كيفية التغير الموجب للانفعال، وأنه بم يحصل؟
أقول: لا شك في أن التغير الموجب للانفعال لا بد وأن يكون بواسطة ملاقاة الماء لعين النجاسة، وأن يكون في الأوصاف الثلاثة المذكورة، فتغييره بنفسه لا يورث ذهاب الطهارة عنه قطعا، لعدم المقتضي له، واختصاص أدلة انفعاله بالتغيير بما إذا حصل عن ملاقاة نجاسة كما هو صريحها. كما أنه بعد البناء على أن التغيير لا بد وأن يكون مما من شأنه انفعال الماء به وهو النجاسات لا بد أن يقال بلزوم استناده إلى ملاقاتها له بأي نحو حصلت، دون مطلق حصوله ولو بالمجاورة ونحوها، نعم يكفي في تحقق استناد التغيير إلى الملاقاة صدق ملاقاتهما، سواء لاقته بنفسها فغيرته، أم لاقته في ضمن شيء متغير بها فتغير الماء بهذا الشيء المتغير بالنجس، على وجه يستند تغيره إلى تلك العين النجسة، ويقال بأن حصوله فيه منها وإن لم يصدق ملاقاته لشخص عينها، كما لو لاقى الماء ماء منتنا بالجيفة حين خلوه عن عين الجيفة وخروجها عنه فتغير الثاني بريح الجيفة التي استصحبها الماء الملاقي لها، فإنه يصدق على هذا الماء المتغير بملاقاة المنتن أن تغيره إنما هو من الجيفة، ويصدق عليه قوله في صحيح ابن بزيع (1): كلما غلب
Halaman 31
الماء على ريح الجيفة فتوضأ واشرب، وإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا تتوضأ ولا تشرب (1).
وهذا هو المراد مما زاده الأستاذ في الحاشية من قوله: " أو ملاقاة الملاقي لها " بعد قول المصنف (قدس سره): " على وجه يستند التغير في الماء إلى ملاقاتها " لأنه إما أن لا يشمل العبارة تلك الصورة في متفاهم المحاورة، أو يخفى شمولها لها، لظهورها في مثل ما لو تغير ماء بدم فاحمر، ثم لاقى ماء آخر فغيره مما فيه من لون الدم.
مع أن الصورة السابقة أيضا مراده منها قطعا، كما يعطيه قوله في الجواهر - في فرض المسألة -: " مع استناد التغير إلى تلك النجاسة " ولم يقل: " إلى ملاقاتها " وعلله بدخوله تحت الأدلة، ووجهه ما أشرنا إليه من صدق أخبار الباب، لصدق أن التغير في الماء إنما هو من ملاقاة الدم والجيفة - في المثالين - ولو بواسطة آخر موصل إياها إليه، سيما مع إطلاق التغير في جملة منها، بحيث يتوهم الاكتفاء به ولو حصل من المجاورة، وخصوصا أن الماء الواحد في العرف المنفعل بتغيره بالنجس لا يعقل استناد التغير في جميع جوانبه وأجزائه إلى ملاقاة شخص عين النجاسة، سيما في غير القابلة منها للانتشار كالجيفة مثلا، حيث إن في المنتشرة أيضا - كالدم - لا يصدق على الأجزاء التي هي غير الجزء الذي لاقى الدم حين وقوعه فيه أنها لاقت ذات الدم، وإنما لاقت الماء المتنجس المتغير بالدم كما لا يخفى.
مع أن مورد الأخبار والواقع في الخارج من موارد تحقق التغير ليس إلا على هذا النحو، فتنقح أنه يكفي في التغير أن يقال: إنه حصل من التلاقي ولو بواسطة ملاقاة ملاقي النجس أيضا، ولا ينحصر فيما استند إلى ملاقاتها نفسها.
وإن شئت قل: إنه تغير بملاقاة الجيفة، لصدق أن هذا الحوض ملاقي لها، ومتغير بصفة النجاسة، الحاصل ذلك التغير بالملاقاة بعد صيرورة ملاقي الجيفة
Halaman 32