/1107_نهج-البلاغة-خطب-الإمام-علي-(ع)-ج-1
EDITOR|
نهج البلاغة
وهو مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام
شرح الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية سابقا الجزء الأول الناشر:
دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت - لبنان
Halaman 1
من هو الإمام علي؟
اجتمع للإمام علي بن أبي طالب من صفات الكمال، ومحمود الشمائل، والخلال، وسناء الحسب وباذخ الشرف، مع الفطرة النقية، والنفس المرضية، ما لم يتهيأ لغيره من أفذاذ الرجال.
تحدر من أكرم المناسب، وانتمى إلى أطيب الأعراق، فأبوه أبو طالب عظيم المشيخة من قريش. وجده عبد المطلب أمير مكة وسيد البطحاء ثم هو قبل من هامات بني هاشم وأعيانهم، وبنو هاشم كانوا كما وصفهم الجاحظ: " ملح الأرض، وزينة الدنيا، وحلى العالم، والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم، ولباب كل جوهر كريم، وشر كل عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك والنصاب الوثيق، ومعدن الفهم، وينبوع العلم. " واختص بقرابته القريبة من الرسول عليه السلام، فكان ابن عمه، وزوج ابنته وأحب عترته إليه، كما كان كاتب وحيه، وأقرب الناس إلى فصاحته، وبلاغته، وأحفظهم لقوله وجوامع كلمه، أسلم على يديه صبيا قبل أن يمس قلبه عقيدة سابقة أو يخالط عقله شوب من شرك موروث، ولازمه فتيا يافعا، في غدوه ورواحه وسلمه وحربه، حتى تخلق بأخلاقه، واتسم بصفاته وفقه عنه الدين، وثقف ما نزل به الروح الأمين، فكان من أفقه أصحابه وأقضاهم، وأحفظهم وأوعاهم، وأدقهم في الفتيا، وأقربهم إلى الصواب، وحتى قال فيه عمر: لا بقيت لمعضلة ليس فيها أبو الحسن، وكانت حياته كلها مفعمة بالأحداث، مليئة بجلائل الأمور، فعلى عهد الرسول عليه السلام، ناضل المشركين واليهود، فكان فارس الحلبة ومسعر الميدان صليب النبع جميع الفؤاد. ذلك هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
Halaman 2
مقدمة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده
بسم الله الرحمن الرحيم
حمد لله سياج (1) النعم. والصلاة على النبي وفاء الذمم. واستمطار الرحمة على آله الأولياء، وأصحابه الأصفياء، عرفان الجميل وتذكار الدليل (2): وبعد فقد أوفى لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب (نهج البلاغة ) مصادفة بلا تعمل. أصبته على تغير حال وتبلبل بال، وتزاحم أشغال، وعطلة من أعمال. فحسبته تسلية، وحيلة للتخلية فتصفحت بعض صفحاته، وتأملت جملا من عباراته. من مواضع مختلفات، وموضوعات متفرقات. فكان يخيل إلي في كل مقام أن حروبا شنت وغارات شنت وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة. وأن للأوهام عرامة (3) وللريب دعارة. وأن جحافل الخطابة، وكتائب الذرابة، في عقود النظام وصفوف الانتظام، تنافح بالصفيح الأبلج (4) والقويم الأملج. وتمتلج المهج برواضع الحجج. فتفل من دعارة الوساوس (5) وتصيب مقاتل الخوانس. والباطل منكسر ومرج الشك في خمود (6) وهرج الريب في ركود. وأن مدبر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
Halaman 3
بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحس بتغير المشاهد. وتحول المعاهد فتارة كنت أجدني في عالم يغمره من المعاني أرواح عالية. في حلل من العبارات الزاهية تطوف على النفوس الزاكية. وتدنو من القلوب الصافية: توحي إليها رشادها.
وتقوم منها مرادها. وتنفر بها عن مداحض المزال. إلى جواد الفضل والكمال.
وطورا كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة (1)، وأنياب كاشره. وأرواح في أشباح النمور، ومخالب النسور. قد تحفزت للوثاب، ثم انقضت للاختلاب فخلبت القلوب عن هواها، وأخدت الخواطر دون رماها. واغتالت فاسد الأهواء وباطل الآراء.
وأحيانا كنت أشهد أن عقلا نورانيا، لا يشبه خلقا جسدانيا، فصل عن الموكب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني. فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى. ونما به إلى مشهد النور الأجلي. وسكن به إلى عمار جانب التقديس. بعد استخلاصه من شوائب التلبيس (2). وآنات كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعلياء الكلمة، وأولياء أمر الأمة، يعرفهم مواقع الصواب ويبصرهم مواضع الارتياب ويحذرهم مزالق الاضطراب. ويرشدهم إلى دقاق السياسة. ويهديهم طرق الكياسة، ويرتفع بهم إلى منصات الرئاسة ويصعدهم شرف التدبير، ويشرف بهم على حسن المصير ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي رحمه الله من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. جمع متفرقة وسماه بهذا الاسم (نهج البلاغة) ولا أعلم اسما أليق بالدلالة على معناه منه. وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دل عليه اسمه، ولا أن آتي بشئ في بيان مزيته فوق ما أتى به صاحب الاختيار كما سترى في مقدمة الكتاب. ولولا أن غرائز الجبلة، وقواضي الذمة، تفرض علينا عرفان الجميل لصاحبه، وشكر المحسن على إحسانه، لما احتجنا إلى التنبيه على ما أودع نهج للبلاغة، من فنون الفصاحة.
وما خص به من وجوه البلاغة، خصوصا وهو لم يترك غرضا من أغراض الكلام إلا إسابة ولم يدع للفكر ممرا إلا جابه (3).
Halaman 4
إلا أن عبارات الكتاب لبعد عهدها منا، وانقطاع أهل جيلنا عن أصل لساننا قد نجد فيها غرائب ألفاظ في غير وحشية، وجزالة تركيب في غير تعقيد، فربما وقف فهم المطالع دون الوصول إلى مفهومات بعض المفردات أو مضمونات بعض الجمل. وليس ذلك ضعفا في اللفظ أو وهنا في المعنى وإنما هو قصور في ذهن المتناول.
ومن ثم همت بي الرغبة أن أصحب المطالعة بالمراجعة والمشارفة بالمكاشفة، وأعلق على بعض مفرداته شرحا وبعض جمله تفسيرا وشئ من اشاته تعيينا، واقفا عند حد الحاجة مما قصدت. موجزا في البيان ما استطعت. معتمدا في ذلك على المشهور من كتب اللغة والمعروف من صحيح الأخبار. ولم أتعرض لتعديل ما روي عن الإمام في مسألة الإمامة أو تجريحه، بل تركت للمطالع الحكم فيه بعد الالتفات إلى أصول المذاهب المعلومة فيها، والأخبار المأثورة الشاهدة عليها، غير أني لم أتحاش تفسير العبارة، وتوضيح الإشارة لا أريد في وجهي هذا إلا حفظ ما أذكر، وذكر ما أحفظ. تصونا من النسيان وتحرزا من الحيدان (1). ولم أطلب من وجه الكتاب إلا ما تعلق منه بسبك المعاني العالية في العبارات الرفيعة في كل ضرب من ضروب الكلام. وحسبي هذه الغاية فيما أريد لنفسي ولمن يطلع عليه من أهل اللسان العربي.
وقد عني جماعة من أجلة العلماء بشرح الكتاب وأطال كل منهم في بيان ما انطوى عليه من الأسرار، وكل يقصد تأييد مذهب وتعضيد مشرب. غير أنه لم يتيسر لي ولا واحد من شروحهم إلا شذرات وجدتها منقولة عنهم في بطون الكتب، فإن وافقت أحدهم فيما رأى فذلك حكم الاتفاق، وإن كنت خالفتهم فإلى صواب فيما أظن على أني لا أعد تعليقي هذا شرحا في عداد الشروح، ولا أذكره كتابا بين الكتب، وإنما هو طراز لنهج البلاغة وعلم توشى به أطرافه (2).
وأرجو أن يكون فيما وضعت من وجيز البيان فائدة للشبان من أهل هذا الزمان فقد رأيتهم قياما على طريق الطلب، يتدافعون لنيل الأرب من لسان العرب.
يبتغون لأنفسهم سلائق عربية وملكات لغوية، وكل يطلب لسانا خاطبا، وقلما كاتبا، لكنهم يتوخون وسائل ما يطلبون في مطالعة المقامات وكتب المراسلات مما
Halaman 5
كتبه المولدون. أو قلدهم فيه المتأخرون. ولم يراعوا في تحريره إلا رقة الكلمات، وتوافق الجناسات. وانسجام السجعات. وما يشبه ذلك من المحسنات اللفظية والتي وسموها بالفنون البديعة. وإن كانت العبارات خلوا من المعاني الجليلة، أو فائدة الأساليب الرفيعة.
على أن هذا النوع من الكلام بعض ما في اللسان العربي وليس كل ما فيه، بل هذا النوع إذا نفرد يعد من أدنى طبقات القول، وليس في حلاه المنوطة بأواخر ألفاظه ما يرفعه إلى درجة الوسط. فلو أنهم عدلوا إلى مدارسة ما جاء عن أهل اللسان، خصوصا أهل الطبقة العليا منهم لأحرزوا من بغيتهم ما امتدت إليه أعناقهم، واستعدت لقبوله أعراقهم. وليس في أهل هذه اللغة إلا قائل بأن كلام الإمام علي بن أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وآله - وأغزره مادة وأرفعه أسلوبا وأجمعه لجلائل المعاني.
فأجدر بالطالبين لنفائس اللغة، والطامعين في التدرج لمراقيها أن يجعلوا هذا الكتاب أهم محفوظهم، وأفضل مأثورهم، مع تفهم معانيه في الأغراض التي جاءت لأجلها وتأمل ألفاظه في المعاني التي صيغت للدلالة عليها. ليصيبوا بذلك أفضل غاية وينتهوا إلى خير نهاية، وأسأل الله نجاح عملي وأعمالهم. وتحقيق أملي وآمالهم.
ولنقدم للمطالع موجزا من القول في نسب الشريف الرضي جامع الكتاب، وطرفا من خبره. فهو أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى ابن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين ابن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وأمه فاطمة بنت الحسين بن الحسن الناصر صاحب الديلم ابن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولد الشريف الرضي في سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. واشتغل بالعلم ففاق في الفقه والفرائض وبذ أهل زمانه في العلم والأدب.
قال صاحب اليتيمة هو اليوم أبدع أبناء الزمان وأنجب سادات العراق، يتحلى مع محتده الشريف ومفخره المنيف بأدب ظاهر، وفضل باهر، وحظ من جميع
Halaman 6
المحامد وافر، تولى نقابة نقباء الطالبيين بعد أبيه في حياته سنة ثمانية وثمانين وثلاثمائة، ضمت إليه مع النقابة سائر الأعمال التي كان يليها أبوه، وهي النظر في المظالم، والحج بالناس. وكان من سمو المقام بحيث يكتب إلى الخليفة القادر بالله العباسي أحمد بن المقتدر من قصيدة طويلة: نفتخر بها ويساوي نفسه بالخليفة:
عطفا أمير المؤمنين فإننا * في دوحة العلياء لا نتفرق ما بيننا يوم الفخار تفاوت * أبدا، كلانا في المعالي معرق إلا الخلافة ميزتك فإنني * أنا عاطل منها وأنت مطوق ويروى أن القادر قال له عند سماع هذا البيت: على رغم أنفك الشريف ومن غرر شعره فيما يقرب من هذا قوله:
رمت المعالي فامتنعن ولم يزل * أبدا ينازع عاشقا معشوق وصبرت حتى نلتهن ولم أقل * ضجرا: دواء الفارك (1) التطليق وابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل. قال صاحب اليتيمة، وهو أشعر الطالبيين: من مضى منهم ومن غبر على كثرة شعرائهم المفلقين ولو قلت أنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق. وقال بعض واصفيه رحمه الله: كان شاعرا مفلقا فصيح النظم ضخم الألفاظ قادرا على القريض متصرفا في فنونه، إن قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العجاب، وإن أراد الفخامة وجزالة الألفاظ في المدح وغيره أتى بما لا يشق له فيه غبار، وإن قصد المراثي جاء سابقا والشعراء منقطعة الأنفاس. وكان مع هذا مترسلا كاتبا بليغا متين العبارات سامي المعاني. وقد اعتنى بجمع شعره في ديوان جماعة، وأجود ما جمع منه مجموع أبي حكيم الحيري، وهو ديوان كبير يدخل في أربع مجلدات كما ذكره صاحب اليتيمة. وصنف كتابا في معاني القرآن العظيم قالوا يتعذر وجود مثله، وهو يدل على سعة اطلاعه في النحو واللغة وأصول الدين. وله كتاب في مجازات القرآن. وكان علي الهمة تسمو به عزيمته إلى أمور عظام لم يجد من الأيام عليها معينا فوقفت به دونها حتى قضى. وكان عفيفا متشددا في العفة بالغا فيها إلى النهاية لم يقبل من أحد صلة ولا جائزة حتى أنه رد صلات أبيه! وقد اجتهد بنو بويه على قبوله صلاتهم فلم يقبل. وكان يرضى بالإكرام وصيانة الجانب وإعزاز
Halaman 7
الأتباع والأصحاب. حكى أبو حامد محمد بن محمد الأسفرائيني الفقيه الشافعي. قال:
كنت يوما عند فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة وابنه سلطان الدولة فدخل عليه الرضي (صاحب كلامنا الآن) أبو الحسن فأعظمه وأجل مكانه ورفع من منزلته وخلى ما كان بيده من القصص والرقاع وأقبل عليه يحادثه إلى أن انصرف. ثم دخل بعد ذلك المرتضى أبو قاسم (أخو الشريف الرضي) فلم يعظمه ذلك التعظيم ولا أكرمه ذلك الاكرام وتشاغل عنه برقاع يقرأها فجلس قليلا ثم سأله أمرا فقضاه ثم انصرف. قال أبو حامد فقلت: أصلح الله الوزير هذا المرتضى هو الفقيه المتكلم صاحب الفنون وهو الأمثل والأفضل منهما وإنما أبو الحسن شاعر. قال فقال لي إذا انصرف الناس وخلا المجلس أجبتك عن هذه المسألة. قال وكنت مجمعا على الانصراف فعرض من الأمر ما لم يكن في الحساب فدعت الضرورة إلى ملازمة المجلس حتى تقوض الناس. وبعد أن انصرف عنه أكثر غلمانه ولم يبق عنده غيري قال لخادم له هات الكتابين اللذين دفعتهما إليك منذ أيام وأمرتك بوضعهما في السفط الفلاني، فأحضرهما فقال هذا كتاب الرضي اتصل بي إنه قد ولد له ولد فأنفذت إليه ألف دينار وقلت هذا للقابلة فقد جرت العادة أن يحمل الأصدقاء وذوو مودتهم مثل هذا في مثل هذه الحال، فردها وكتب إلي هذا الكتاب فاقرأه، فقرأته فإذا هو اعتذار عن الرد وفي جملته: إننا أهل بيت لا يطلع على أحوالنا قابلة غريبة، وإنما عجائزنا يتولين هذا الأمر من نسائنا ولسن ممن يأخذن أجرة ولا يقبلن صلة. قال فهذا هذا. وأما المرتضى فإنا كنا وزعنا وقسطنا على الأملاك ببعض النواحي تقسيطا نصرفه في حفر فوهة النهر المعروف بنهر عيسى، فأصاب ملكا للشريف المرتضى بالناحية المعروفة بالداهرية من التقسيط عشرون درهما ثمنها دينار واحد، وقد كتب منذ أيام في هذا المعنى هذا الكتاب فاقرأه وهو أكثر من مائة سطر يتضمن من الخشوع والخضوع والاستمالة والهزء والطلب والسؤال في أسقاط هذه الدراهم المذكورة ما يطول شرحه قال فخر الملك فأيهما ترى أولى بالتعظيم والتبجيل: هذا العالم المتكلم الفقيه الأوحد ونفسه هذه النفس، أم ذلك الذي لم يشهر إلا بالشعر خاصة ونفسه تلك النفس؟.
فقلت وفق الله سيدنا الوزير والله ما وضع الأمر إلا في موضعه ولا أحله إلا في محله.
Halaman 8
وتوفي الرضي في المحرم سنة أربع وأربعمائة ودفن في داره بمسجد الأنباريين بالكرخ ومضى أخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد موسى بن جعفر عليه السلام لأنه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته ودفنه، وصلى عليه الوزير فخر الملك أبو غالب، ومضى بنفسه آخر النهار إلى المشهد الشريف الكاظمي فألزمه بالعود إلى داره. ومما رثاه به أخوه المرتضى الأبيات المشهورة التي من جملتها:
يا للرجال لفجعة جذمت يدي * ووددت لو ذهبت علي برأسي ما زلت أحذر وردها حتى أتت * فحسوتها في بعض ما أنا حاسي ومطلتها زمنا فلما صممت * لم يثنها مطلي وطول مكاسي لا تنكروا من فيض دمعي عبرة * فالدمع غير مساعد ومواسي لله عمرك من قصير طاهر * ولرب عمر طال بالأدناس وحكى ابن خلكان عن بعض الفضلاء أنه رأى في مجموع أن بعض الأدباء اجتاز بدار الشريف الرضي (صاحب الترجمة) بسر من رأى وهو لا يعرفها، وقد أخنى عليها الزمان وذهبت بهجتها وأخلقت ديباجتها، وبقايا رسومها تشهد لها بالنضارة وحسن الشارة، فوقف عليها متعجبا من صروف الزمان وطوارق الحدثان، وتمثل بقول الشريف الرضي:
ولقد بكيت على ربوعهم * وطلولها بيد البلي نهب فبكيت حتى شج من لغب * نضوي، ولج بعذلي الركب وتلفتت عيني فمذ خفيت * عني الطلول تلفت القلب فمر به شخص وهو ينشد الأبيات فقال له: هل تعرف هذه الدار لمن هي؟ فقال لا. فقال هذه الدار لصاحب الأبيات الشريف الرضي، فعجب كلاهما من حسن الاتفاق. وفي رواية العلماء من مناقب الشريف الرضي ما لو تقصيناه لطال الكلام، وإنما غرضنا أن يلم القارئ بسيرته بعض الالمام. والله أعلم.
Halaman 9
مقدمة السيد الشريف الرضي
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد حمد الله الذي جعل الحمد ثمنا لنعمائه. ومعاذا من بلائه. وسبيلا إلى جنانه (1) وسببا لزيادة إحسانه. والصلاة على رسوله نبي الرحمة، وإمام الأئمة، وسراج الأمة. المنتخب من طينة الكرم (2) وسلالة المجد الأقدم. ومغرس الفخار المعرق (3) وفرع العلاء المثمر المورق وعلى أهل بيته مصابيح الظلم، وعصم الأمم (4) ومنار الدين الواضحة، ومثاقيل الفضل الراجحة. صلى الله عليهم أجمعين صلاة تكون إزاء لفضلهم (5) ومكافأة لعملهم. وكفاء لطيب فرعهم وأصلهم. ما أنار فجر ساطع وخوى نجم طالع (6) فإني كنت في عنفوان السن (7)، وغضاضة الغصن، ابتدأت بتأليف كتاب خصائص الأئمة عليهم السلام يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم: حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب وجعلته أمام الكلام. وفرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين عليا عليه السلام. وعاقت عن إتمام بقية الكتاب
Halaman 10
محاجزات الزمان (1) ومماطلات الأيام. وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا.
وفصلته فصولا فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه عليه السلام من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة.
فاستحسن جماعة من الأصدقاء والإخوان ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره معجبين ببدائعه ومتعجبين من نواصعه (2) وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه، ومتشعبات غصونه، من خطب وكتب ومواعظ وآداب علما أن ذلك يتضمن عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ما لا يوجد مجتمعا في كلام (3) ولا مجموع الأطراف في كتاب. إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرع الفصاحة وموردها (4) ومنشأ البلاغة ومولدها. ومنه عليه السلام ظهر مكنونها. وعنه أخذت قوانينها. وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب (5) وبكلامه استعان كل واعظ بليغ. ومع ذلك فقد سبق وقصروا. وتقدم وتأخروا. لأن كلامه عليه السلام الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي (6) وفيه عبقة من الكلام النبوي. فأجبتهم إلى الابتداء بذلك عالما بما فيه من عظيم النفع ومنشور الذكر ومذخور الأجر.
واعتمدت به أن أبين من عظيم قدر أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الفضيلة مضافة إلى المحاسن الدائرة والفضائل الجمة (7). وأنه عليه السلام انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين الذين إنما يؤثر عنهم منها القليل النادر والشاذ الشارد (8). وأما كلامه فهو من البحر الذي لا يساجل (9)، والجم الذي لا يحافل (10) وأردت أن يسوغ لي
Halaman 11
التمثل في الافتخار به عليه السلام بقول الفرزدق - أولئك آبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا يا جرير المجامع ورأيت كلامه عليه السلام يدور على أقطاب ثلاثة: أولها الخطب والأوامر. وثانيها الكتب والرسائل وثالثها الحكم والمواعظ. فأجمعت بتوفيق الله تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب (1) ثم محاسن الكتب ثم محاسن الحكم والأدب، مفردا لكل صنف من ذلك بابا ومفصلا فيه أوراقا لتكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذ عني عاجلا ويقع إلي آجلا. وإذا جاء شئ من كلامه عليه السلام الخارج في أثناء حوار (2) أو جواب سؤال أو غرض آخر من الأغراض في غير الأنحاء التي ذكرتها وقررت القاعدة عليها نسبته إلى أليق الأبواب به وأشدها ملامحة لغرضه (3). وربما جاء فيما أختاره من ذلك فصول غير متسقة، ومحاسن كلم غير منتظمة، لأني أورد النكت واللمع ولا أقصد التتالي والنسق. ومن عجائبه عليه السلام التي إنفرد بها وأمن المشاركة فيها أن كلامه عليه السلام الوارد في الزهد والموعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل وفكر فيه المتفكر وخلع من قلبه أنه كلام مثله ممن عظم قدره ونفذ أمره وأحاط بالرقاب ملكه لم يعترضه الشك في أنه من كلام من لا حفظ له في الزهادة ولا شغل له بغير العبادة، وقد قبع في كسر بيت (4) أو انقطع في سفح جبل. لا يسمع إلا حسه ولا يرى إلا نفسه ولا يكاد يوقن بأنه كلام من يتغمس في الحرب مصلتا سيفه (5) فيقطع الرقاب ويجدل الأبطال (6) ويعود به ينطف دما ويقطر مهجا، وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد وبدل الأبدال (7). وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه
Halaman 12
اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد، وألف بين الأشتات (1). وكثيرا ما أذكر الإخوان بها واستخرج عجبهم منها. وهي موضوع للعبرة بها والفكرة فيها. وربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد والمعنى المكرر والعذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا. فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه، ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعا غير وضعه الأول، إما بزيادة مختارة أو بلفظ أحسن عبارة، فتقتضي الحال أن يعاد استظهارا للاختيار، وغيرة على عقائل الكلام (2). وربما بعد العهد أيضا بما اختير أولا فأعيد بعضه سهوا أو نسيانا لا قصدا واعتمادا. ولا أدعي مع ذلك أني أحيط بأقطار جميع كلامه عليه السلام (3) حتى لا يشذ عني منه شاذ ولا يند ناد، بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلى، والحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي (4) وما على إلا بذل الجهد وبلاغ الوسع، وعلى الله سبحانه نهج السبيل (5) ورشاد الدليل إن شاء الله ورأيت من بعد تسمية هذا الكتاب بنهج البلاغة إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها.
ويقرب عليه طلابها. فيه حاجة العالم والمتعلم وبغية البليغ والزاهد، ويمضي في أثنائه من الكلام في التوحيد والعدل وتنزيه الله سبحانه وتعالى عن شبه الخلق ما هو بلال كل غلة (6) وجلاء كل شبهة. ومن الله سبحانه أستمد التوفيق والعصمة.
وأتنجز التسديد والمعونة، وأستعيذه من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان، ومن زلة الكلام قبل زلة القدم. وهو حسبي ونعم الوكيل.
باب المختار من خطب أمير المؤمنين عليه السلام وأوامره ويدخل في ذلك المختار من كلامه الجاري مجرى الخطب في المقامات المحصورة والمواقف المذكورة والخطوب الواردة
Halaman 13
[النص]
1 - ومن خطبة له عليه السلام
" يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم "
الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون. ولا يحصي نعماءه العادون. ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم (1) ولا يناله غوص الفطن (2). الذي ليس لصفته حد محدود (3) ولا نعت موجود. ولا وقت معدود ولا أجل ممدود. فطر الخلائق بقدرته.
ونشر الرياح برحمته. ووتد بالصخور ميدان أرضه (4). أول الدين معرفته (5) وكمال معرفته التصديق به. وكمال التصديق به توحيده.
[الشرح]
(1) أي ان همم النظار وأصحاب الفكر وان علت وبعدت فانها لا تدركه تعالى ولا تحيط به علما (2) والفطن جمع فطنة. وغوصها استغراقها في بحر المعقولات لتلتقط در الحقيقة، وهي وان أبعدت في الغوص لا تنال حقيقة الذات الأقدس. (3) فرغ من الكلام في الذات وامتناعها على العقول ادراكا، ثم هو الآن في تقديس صفاته عن مشابهة الصفات الحادثة، فكل صفات الممكن لها في أثرها حد تنقطع اليه كما نجده في قدرتنا وعلمنا مثلا فان لكل طورا لا يتعداه. أما قدرة الله وعلمه فلا حد لشمولهما. وكذا يقال في باقي الصفات الكمالية، والنعت يقال لما يتغير، وصفاتنا لها نعوت. فحياتنا مثلا لها أطوار من طفولية وصبا وما بعدهما وقوة وضعف وتوسط. وقدرتنا كذلك وعلمنا له أدوار نقص وكمال وغموض ووضوح. أما صفاته تعالى فهي منزهة عن هذه النعوت وأشباهها. ثم هي أزلية أبدية لا تعد الاوقات لوجودها واتصاف ذاته بها ولا تضرب لها الآجال. (4) الميدان الحركة، ووتد بالتخفيف والتشديد أي ثبت أي سكن الارض بعد اضطرابها بما رسخ من الصخور الجامدة في أديمها، وهو يشير الى أن الارض كانت مائرة مضطربة قبل جمودها. (5) اساس الدين معرفة الله وهو قد يعرف بأنه صانع
Halaman 14
[النص]
وكمال توحيده الاخلاص له. وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة. فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه. ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله (1). ومن جهله فقد أشار إليه.
ومن أشار إليه فقد حده (2). ومن حده فقد عده، ومن قال فيم
[الشرح]
العالم وليس منه بدون تنزيه وهي معرفة ناقصة وكمالها التصديق به ذاته بصفته الخاصة التي لا يشركه فيها غيره وهي وجوب الوجود: ولا يكمل هذا التصديق حتى يكون معه لازمه وهو التوحيد لأن الواجب لا يتعدد كما عرف في فن الإلهيات والكلام. ولا يكمل التوحيد إلا بتمحيض السر له دون ملامحة لشئ من شؤون الحوادث في التوجه إليه واستشراق نوره، ولا يكون هذا الاخلاص كاملا حتى يكون معه نفي الصفات الظاهرة في التعينات المشهودة في المشخصات، لأن معرفة الذات الأقدس في نحو تلك الصفات اعتبار للذات ولشئ آخر مغاير لها معها فيكون قد عرف مسمى الله مؤلفا لا متوحدا، فالصفات المنفية بالإخلاص صفات المصنوعين وإلا فللإمام كلام قد ملئ بصفاته سبحانه، بل هو في هذا الكلام يصفه أكمل الوصف الجهل يستلزم القول بالتشخيص الجسماني وهو يستلزم صحة الإشارة إليه تعالى الله عن ذلك (2) إنما تشير إلى شئ إذا كان منك في جهة فأنت تتوجه إليها بإشارتك، وما كان في جهة فهو منقطع عن غيرها فيكون محدود أي له طرف ينتهي إليه، فمن أشار إليه فقد حده، ومن حد فقد عد، أي أحصى وأحاط بذلك المحدود لأن الحد حاصر لمحدوده. وإذا قلت لشئ فيم هو فقد جعلته في ضمن شئ ثم تسأل عن تعيين ذلك الذي تضمنه، وإذا قلت على أي شئ فأنت ترى أنه مستعل على شئ بعينه وما عداه خال منه
Halaman 15
[النص]
فقد ضمنه. ومن قال علام فقد أخلى منه. كائن لا عن حدث (1) موجود لا عن عدم . مع كل شئ لا بمقارنة. وغير كل شئ لا بمزايلة (2). فاعل لا بمعنى الحركات والآلة. بصير إذ لا منظور إليه من خلقه (3). متوحد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده (4). أنشأ الخلق إنشاء. وابتدأه ابتداء. بلا روية أجالها (5). ولا تجربة استفادها. ولا حركة أحدثها. ولا همامة نفس اضطرب فيها (6). أحال الأشياء لأوقاتها (7). ولأم بين مختلفاتها (8). وغرز غرائزها (9) وألزمها أشباحها (10) عالما بها قبل ابتدائها محيطا بحدودها وانتهائها. عارفا بقرائنها
[الشرح]
(1) الحدث الإبداء أي هو موجود لكن لا عن إبداء وإيجاد موجد، والفقرة الثانية لازمة لهذه لأنه إن لم يكن وجوده عن إيجاد موجد فهو غير مسبوق الوجود بالعدم (2) المزايلة المفارقة والمباينة (3) أي بصير بخلقه قبل وجودهم (4) العادة والعرف على أنه لا يقال متوحد إلا لمن كان له من يستأنس بقربه ويستوحش لبعده فانفرد عنه. والله متوحد مع التنزه عن السكن (5) الروية الفكر، وأجالها أدارها ورددها. وفي نسخة أحالها بالمهملة أي صرفها (6) همامة النفس بفتح الهاء اهتمامها بالأمر وقصدها إليه (7) حولها من العدم إلى الوجود في أوقاتها، أو هو من حال في متن فرسه أي وثب وأحاله غيره أوثبه، ومن أقر الأشياء في أحيانها صار كمن أحال غيره على فرسه (8) كما قرن النفس الروحانية بالجسد المادي (9) الغرائز جمع غريزة وهي الطبيعة. وغرز الغرائز كضوأ الأضواء أي جعلها غرائز. والمراد أودع فيها طبائعها (10) الضمير في أشباحها للغرائز. أي ألزم الغرائز أشباحها أي أشخاصها لأن كل
Halaman 16
[النص]
وأحنائها (1). ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء (2) وشق الارجاء وسكائك الهواء (3). فأجرى فيها ماء متلاطما تياره (4)، متراكما زخاره. حمله على متن الريح العاصفة، والزعزع القاصفة. فأمرها برده (5)، وسلطها على شده، وقرنها إلى حده. الهواء من تحتها فتيق (6)، والماء من فوقها
[الشرح]
مطبوع على غريزة لازمته، فالشجاع لا يكون خوارا مثلا (1) جمع حنو بالكسر أي الجانب، أو ما أعوج من الشئ بدنا كان أو غيره، كناية عما خفي. أو من قولهم أحناء الأمور أي مشتبهاتها وقرائنها ما يقترن بها من الأحوال المتعلقة بها والصادرة عنها (2) ثم أنشأ الخ الترتيب والتراخي في قول الإمام لا في الصنع الإلهي كما لا يخفى.
والأجواء جمع جو وهو هذا الفضاء العالي بين السماء والأرض. واستفيد من كلامه أن الفضاء مخلوق وهو مذهب قوم كما استفيد منه أن الله خلق في الفضاء ماء حمله على متن ريح فاستقل عليها حتى صارت مكانا له ثم خلق فوق ذلك الماء ريحا أخرى سلطها عليه فموجته تمويجا شديدا حتى ارتفع فخلق منه الأجرام العليا. وإلى هذا يذهب قوم من الفلاسفة منهم تالسين الإسكندري يقولون إن الماء أي الجوهر السائل أصل كل الأجسام كثيفها من متكاثفه ولطيفها من شفائفه، والأرجاء الجوانب واحدها رجا كعصا (3) السكائك جمع سكاكة بالضم وهي الهواء الملاقي عنان السماء وبابها نحو ذؤابة وذوائب (4) التيار الموج. والمتراكم ما يكون بعضه فوق بعض. والزخار الشديد الزخر أي الامتداد والارتفاع. والريح العاصفة الشديدة الهبوب كأنها تهلك الناس بشدة هبوبها وكذلك الزعزع كأنها تزعزع كل ثابت. وتقصف أي تحطم كل قائم (5) أمرها برده أي منعه من الهبوط لأن الماء ثقيل وشأن الثقيل الهوى والسقوط وسلطها على شده أي وثاقه كأنه سبحانه أوثقه بها أو منعه من الحركة إلى السفل التي هي من لوازم طبعه.
وقرنها إلى حده أي جعلها مكانا له أي جعل حد الماء المذكور وهو سطحه الأسفل مماسا لسطح الريح التي تحمله أو أراد من الحد المنع أي جعل من لوازمها ذلك (6) الفتيق
Halaman 17
[النص]
دفيق. ثم أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبها (1) وأدام مربها. وأعصف مجراها وأبعد منشاها. فأمرها بتصفيق الماء الزخار (2)، وإثارة موج البحار. فمخضته مخض السقاء، وعصفت به عصفها بالفضاء. ترد أوله إلى آخره، وساجيه إلى مائره (3). حتى عب عبابه، ورمى بالزبد ركامه فرفعه في هواء منفتق، وجو منفهق (4). فسوى منه سبع سماوات جعل سفلاهن موجا مكفوفا (5) وعلياهن سقفا محفوظا. وسمكا مرفوعا. بغير عمد يدعمها، ولا دسار ينظمها (6). ثم زينها بزينة الكواكب، وضياء الثواقب (7). وأجرى فيها سراجا مستطيرا (8)، وقمرا منيرا. في فلك دائر، وسقف سائر، ورقيم مائر (9) ثم فتق
[الشرح]
المفتوق والدفيق المدفوق (1) اعتقم مهبها جعل هبوبها عقيما. والريح العقيم التي لا تلقح سحابا ولا شجرا وكذلك كانت هذه لأنها أنشئت لتحريك الماء ليس غير. والمرب ميمى من أرب بالمكان مثل ألب به أي لازمه. فأدام مربها أي ملازمتها، أو أن أدام من أدمت الدلو ملأتها. والمرب بكسر أوله المكان والمحل (2) تصفيقه تحريكه وتقليبه.
ومخضته حركته بشدة كما يمخض السقاء بما فيه من اللبن ليستخرج زبده. والسقاء جلد السخلة يجذع فيكون وعاء للبن والماء جمعه أسقية وأسقيات وأساق. وعصفت به الخ الريح إذا عصفت بالفضاء الذي لا أجسام فيه كانت شديدة لعدم المانع وهذه الريح عصفت بهذا الماء ذلك العصف الذي يكون لها لو لم يكن مانع (3) الساجي الساكن والمائر الذي يذهب ويجئ أو المتحرك مطلقا. وعب عبابه ارتفع علاه. وركامه أثبجه وهضبته وما تراكم منه بعضه على بعض (4) المنفهق المفتوح الواسع (5) المكفوف الممنوع من السيلان، ويدعمها أي يسندها ويحفظها من السقوط (6) الدسار واحد الدسر وهي المسامير أو الخيوط تشد بها ألواح السفينة من ليف ونحوه (7) الثواقب المنيرة المشرقة (8) مستطيرا منتشر الضياء وهو الشمس (9) الرقيم اسم من أسماء
Halaman 18
[النص]
ما بين السماوات العلا. فملأهن أطوارا من ملائكته (1) منهم سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون، وصافون لا يتزايلون ومسبحون لا يسأمون. لا يغشاهم نوم العين. ولا سهو العقول.
ولا فترة الأبدان. ولا غفلة النسيان. ومنهم أمناء على وحيه، وألسنة إلى رسله، ومختلفون بقضائه وأمره. ومنهم الحفظة لعباده والسدنة لأبواب جنانه. ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم. ناكسة دونه أبصارهم (2).
[الشرح]
الفلك، سمي به لأنه مرقوم بالكواكب. ومائر متحرك. ويفسر الرقيم باللوح. وشبه الفلك باللوح لأنه مسطح فيما يبدو للنظر (1) جعل الملائكة أربعة أقسام: الأول أرباب العبادة ومنهم الراكع والساجد والصاف والمسبح، وقوله صافون أي قائمون صفوفا لا يتزايلون أي لا يتفارقون. والقسم الثاني الأمناء على وحي الله لأنبيائه والألسنة الناطقة في أفواه رسله والمختلفون بالأقضية إلى العباد، بهم يقضي الله على من شاء بما شاء. والقسم الثالث حفظة العباد كأنهم قوى مودعة في أبدان البشر ونفوسهم يحفظ الله الموصولين بها من المهالك والمعاطب، ولولا ذلك لكان العطب ألصق بالانسان من السلامة. ومنهم سدنة الجنان جمع سادن وهو الخادم، والخادم يحفظ ما عهد إليه وأقيم على خدمته. والقسم الرابع حملة العرش كأنهم القوة العامة التي أفاضها الله في العالم الكلي فهي الماسكة له الحافظة لكل جزء منه مركزه وحدود مسيره في مداره فهي المخترقة له النافذة فيه الآخذة من أعلاه إلى أسفله ومن أسفله إلى أعلاه. وقوله المارقة من السماء: المروق الخروج. وقوله الخارجة من الأقطار أركانهم: الأركان الأعضاء والجوارح. والتمثيل في الكلام لا يخفى على أهل البصائر (2) الضمير في دونه للعرش
Halaman 19
[النص]
متلفعون تحته بأجنحتهم. مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة وأستار القدرة. لا يتوهمون ربهم بالتصوير. ولا يجرون عليه صفات المصنوعين. ولا يحدونه بالأماكن. ولا يشيرون إليه بالنظائر صفة خلق آدم عليه السلام ثم جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها (1)، تربة سنها بالماء حتى خلصت. ولاطها بالبلة حتى لزبت (2). فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول (3) وأعضاء وفصول. أجمدها حتى استمسكت، وأصلدها حتى صلصلت (4). لوقت معدود. وأمد معلوم. ثم نفخ
[الشرح]
كالضمير في تحته. ومتلفعون من تلفعت بالثوب إذا التحفت به (1) الحزن بفتح فسكون: الغليظ الخشن والسهل ما يخالفه. والسبخ ما ملح من الأرض. وأشار باختلاف الأجزاء التي جبل منها الإنسان إلى أنه مركب من طباع مختلفة وفيه استعداد للخير والشر والحسن والقبيح (2) سن الماء صبه والمراد صب عليها أو سنها هنا بمعنى ملسها كما قال:
ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء * تمشي في مرمر مسنون وقوله حتى خلصت أي صارت طينة خالصة. وفي بعض النسخ حتى خضلت بتقديم الضاد المعجمة على اللام أي ابتلت ولعلها أظهر. لاطها خلطها وعجنها أو هو من لاط الحوض بالطين ملطه وطينه به. والبلة بالفتح من البلل. ولزب ككرم تداخل بعضه في بعض وصلب، ومن باب نصر بمعنى التصق وثبت واشتد (3) الأحناء جمع حنو وهو بالكسر والفتح كل ما فيه اعوجاج من البدن كعظم الحجاج واللحى والضلع أو هي الجوانب مطلقا. وجبل أي خلق (4) أصلدها جعلها صلبة ملساء متينة. وصلصلت
Halaman 20