310

Syarh al-Maqasid

شرح المقاصد في علم الكلام

Penerbit

دار المعارف النعمانية

Nombor Edisi

الأولى

Tahun Penerbitan

1401هـ - 1981م

Lokasi Penerbit

باكستان

الثالث أنهما لو وجدتا الآن فإما في هذا العالم أو في عالم آخر وكلاهما باطل أما الأول فلأنه لا يتصور في أفلاكه لامتناع الحرق والالتيام عليها وحصول العنصريات فيها وهبوط آدم منها ولا في عنصرياته لأنها لا تسع جنة عرضها كعرض السماء والأرض ولأنه لا معنى للتناسخ إلا عود الأرواح إلى الأبدان مع بقائها في عالم العناصر وأما الثاني فلأنه لا بد في ذلك العالم أيضا من جهات مختلفة إنما تتحد بالمحيط والمركز فيكون كريا فلا يلاقي هذا العالم إلا بنقطة فيلزم بين العالمين خلاء وقد تبين استحالته ولأنه يشتمل لا محالة على عناصر لها فيه أحياز طبيعية فيكون لعنصر واحد حيزان طبيعيان ويلزم سكون كل عنصر في حيزه الذي في ذلك العالم لكونه طبيعيا له وحركته عنه إلى حيزه الذي في هذا العالم لكونه خارجا عنه واجتماع الحركة والسكون محال وإن لم يلزم الحركة والسكون فلا اقل من لزوم الميل إليه وعنه ولأنه لا محالة يكون في جهة من محدد هذا العالم والمحدد في جهة منه فيلزم تحدد الجهة قبله لا به مع لزوم الترجح بلا مرجح لاستواء الجهات والجواب أن مبني ذلك على أصول فلسفية غير مسلمة عندنا كاستحالة الخلاء وامتناع الخرق والالتيام ونفي القادر المختار الذي بقدرته وإرادته تحديد الجهات وترجيح المتساويات إلى غير ذلك من المقدمات على أن ما ادعوا تحدده بالمحيط والمركز إنما هو من جهة العلو والسفل لا غير ودليلهم على امتناع الخرق إنما قام في المحدد لا غير وكون العالمين في محيط منهما بمنزلة تدويرين في ثخن فلك لا يستلزم الخلاء ولا يمتنع كون عناصر العالمين مختلفة الطبايع ولا كون تحيزهما في أحد العالمين غير طبيعي وليس التناسخ عود الأرواح إلى أبدانها بل تعلقها ببدن آخر في هذا العالم لا يقال هذا الدليل لا يليق بالقائلين بوجود الجنة والنار يوم الجزاء لأنه على تقدير تمامه ينفي وجود جنة يدخلها الناس ويوجد فيها العنصريات لابتناء ذلك على خرق الأفلاك لأنا نقول على تقدير افناء هذا العالم بالكلية وإيجاد عالم آخر فيه الجنة والنار والإنسان وسائر العنصريات لا يلزم الخرق ولا غيره من المحالات فلذا خص هذا الدليل بنفي الجنة والنار مع وجود هذا العالم قال ( خاتمة ) لم يرد نص صريح في تعيين مكان الجنة والنار والأكثرون على أن الجنة فوق السماوات السبع وتحت العرش تشبثا بقوله تعالى

﴿عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى

وقوله عليه السلام سقف الجنة عرش الرحمن والنار تحت الأرضين السبع والحق تفويض ذلك إلى علم العليم الخبير قال المبحث السادس في سؤال القبر وعذابه اتفق الإسلاميون على حقية سؤال منكر ونكير في القبر وعذاب الكفار وبعض العصاة فيه ونسب خلافه إلى بعض المعتزلة قال بعض المتأخرين منهم حكي إنكار ذلك عن ضرار بن عمرو وإنما نسب إلى المعتزلة وهم براء منه لمخالطة ضرار إياهم وتبعه قوم من السفهاء المعاندين للحق لنا الآيات كقوله تعالى في آل فرعون

﴿النار يعرضون عليها غدوا وعشيا

أي قبل القيامة وذلك في القبر بدليل قوله تعالى

﴿ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب

وكقوله تعالى في قوم نوح

﴿أغرقوا فأدخلوا نارا

والفاء للتعقيب وكقوله تعالى

﴿ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين

وإحدى الحياتين ليست إلا في القبر ولا يكون إلا لأنموذج ثواب أو عقاب بالاتفاق وكقوله تعالى

﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله

والأحاديث المتواترة المعنى كقوله صلى الله عليه وسلم القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران وكما روي أنه عليه السلام مر بقبرين فقال إنهما ليعذبان الحديث وكالحديث المعروف في الملكين اللذين هما يدخلان القبر ومعهما مرزبتان فيسألان الميت عن ربه وعن دينه وعن نبيه إلى غير ذلك من الأخبار والآثار المسطورة في الكتب المشهورة وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذته من عذاب القبر واستفاض ذلك في الأدعية المأثورة تمسك المنكرون بالسمع والعقل أما السمع وهو للمعترفين بظواهر الشرايع فقوله تعالى

﴿لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى

ولو كان في القبر حياة ولا محالة يعقبها موت إذ لا خلاف في إحياء الحشر لكان لهم قبل دخول الجنة موتتان لا موتة واحدة فقط فإن قيل ما معنى هذا الاستثناء ومعلوم أن لا موت في الجنة أصلا ولو فرض فلا يتصور ذوق الموتة الأولى فيها قلنا هو منقطع أي لكن ذاقوا الموتة الأولى أو متصل على قصد المبالغة في عدم انقطاع نعيم الجنة بالموت بمنزلة تعليقه بالمحال أي لو أمكنت فيها موتة لكانت الموتة الأولى التي مضت وانقضت لكن ذلك محال فإن قيل وصف الموتة بالأولى يشعر بموتة ثانية وليست إلا بعد إحياء القبر فتكون الآية حجة على المتمسك لا له قلنا المراد بالأولى بالنسبة إلى ما يتوهم في الجنة ويقصد نفيها فإن قيل يجوز ألا يراد الواحد بالعدد بل المتحقق المقابل بهذا المتوهم على ما يتناول موتة الدنيا وموتة القبر قلنا يأباه بناء المرة وتاء الوحدة وكذا قوله تعالى

﴿وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم

﴿ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين

ولو كان في القبر إحياء لكانت الإحياآت ثلاثة في الدنيا وفي القبر وفي الحشر وقوله تعالى

﴿وما أنت بمسمع من في القبور

ولو كان في القبر إحياء لصح إسماع والجواب أن إثبات الواحد أو اثنين لا ينفي وجود الثاني أو الثالث على أن التعليق بأحد المحالين كاف في المبالغة وإثبات الإماتة والإحياء فكقوله تعالى

﴿ثم يميتكم ثم يحييكم

يمكن حمله على جميع ما يقع بعد حياة الدنيا من الإماتة والإحياء في الدنيا وفي القبر والحشر إذ لا دلالة للفعل على المرة لكن ربما يقال أن في لفظ ثم الثانية بعض نبوة عن ذلك ثم الظاهر أن المراد الإماتة في الدنيا والإحياء في الآخرة ولم يتعرض لما في القبر لخفاء أمره وضعف أثره على ما سيجيء فلا يصلح ذكره في معرض الدلالة على ثبوت الألوهية ووجوب الإيمان والتعجب والتعجيب من الكفر وأما في قولهم

﴿أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين

فالإماتتان في الدنيا وفي القبر وكذا الإحياآن وترك ما في الآخرة لأنه معاين وقيل بل ما في القبر وما في الحشر لأن المراد إحياء تعقبه معرفة ضرورية بالله واعتراف بالذنوب وأما قوله تعالى

﴿وما أنت بمسمع من في القبور

فتمثيل لحال الكفرة بحال الموتى ولا نزاع في أن الميت لا يسمع وأما العقل فلأن اللذة والألم والمسئلة والتكلم ونحو ذلك لا يتصور بدون العلم والحياة ولا حياة مع فساد البنية وبطلان المزاج ولو سلم فإنا نرى الميت أو المقتول أو المصلوب يبقى مدة من غير تحرك وتكلم ولا أثر تلذذ أو تألم وربما يدفن في صندوق أو لحد ضيق لا يتصور فيه جلوسه على ما ورد في الخبر وربما يذر على صدره كف من الذرة فترى باقية على حالها بل ربما يأكله السباع أو تحرقه النار فيصير رمادا تذروه الرياح في المشارق والمغارب فكيف يعقل حياته وعذابه وسؤاله وجوابه وتجويز ذلك سفسطة وليس بأبعد من تجويز حياة سرير الميت وكلامه وتعذيب خشبة المصلوب واحتراقها ونحن نراها بحالها والجواب إجمالا أن جميع ما ذكرتم استبعادات لا تنفي الإمكان كسائر خوارق العادات وإذ قد أخبر الصادق بها لزم التصديق وتفصيلا أنا لا نسلم اشتراط الحياة بالبنية ولو سلم فيجوز أن يبقى من الأجزاء قدر ما يصلح بنية والتعذيب والمسئلة يجوز أن يكون للروح الذي هو أجسام لطيفة أو للأجزاء الأصلية الباقية فلا يمتنع أن لا يشاهده الناظر ولا أن يخفيه الله تعالى عن الإنس والجن لحكمة لا اطلاع لنا عليها ولا أن يتحقق مع كون الميت في بطون السباع ومن قال بالقادر المختار المحيي المميت لا يستبعد توسيع اللحد والصندوق ولا حفظ الذرة على صدر المتحرك والقول بأن تجويز أمثال ذلك يفضي إلى السفطسة إنما يصح فيما لم يقم عليه الدليل ولم يخبر به الصادق وأما ما يقول به الصالحية والكرامية من جواز التعذيب بدون الحياة لأنها ليست شرطا للإدراك وابن الراوندي من أن الحياة موجودة في كل ميت لأن الموت ليست ضدا للحياة بل هو آفة كلية معجزة عن الأفعال الاختيارية غير منافية للعلم فباطل لا يوافق أصول أهل الحق قال خاتمة اتفق أهل الحق على أن الله يعيد إلى الميت في القبر نوع حياة قدر ما يتألم ويتلذذ ويشهد بذلك الكتاب والأخبار والآثار ولكن توقفوا في أنه هل يعاد الروح إليه أم لا وما يتوهم من امتناع الحياة بدون الروح ممنوع وإنما ذلك في الحياة الكاملة التي يكون معها القدرة والأفعال الاختيارية وقد اتفقوا على أن الله تعالى لم يخلق في الميت القدرة والأفعال الاختيارية فلهذا لا يعرف حياته كمن أصابته سكتة ويشكل هذا بجوابه لمنكر ونكير على ما ورد في الحديث قال المبحث السابع في سائر السمعيات المتعلقة بأمر المعاد وجملة الأمر أنها أمور ممكنة نطق بها الكتاب والسنة وانعقد عليها إجماع الأمة فيكون القول بها حقا والتصديق بها واجبا فمنها المحاسبة المشار إليها بقوله تعالى

﴿إن الله سريع الحساب

وبقوله عليه الصلاة والسلام حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وأهوالها هول الوقوف قيل ألف سنة وقيل خمسون ألفا وقيل أقل وقيل أكثر والله أعلم قال الله تعالى

﴿وقفوهم إنهم مسؤولون

﴿يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن

وهول تطاير الكتب قال الله تعالى

﴿فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا

وقال

﴿وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا

وهول المسئلة

﴿وقفوهم إنهم مسؤولون

﴿فوربك لنسألنهم أجمعين

وهول شهادة الشهود العشرة الألسنة والأيدي والأرجل والسمع والأبصار والجلود والأرض والليل والنهار والحفظة الكرام قال الله تعالى

﴿يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون

وقال

﴿شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون

وقال عليه الصلاة والسلام ما من يوم وليلة يأتي على ابن آدم إلا قال أنا ليل جديد وأنا فيما يعمل في شهيد وكذا قال في اليوم وقال الله تعالى

﴿وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد

وهول تغير الألوان قال الله تعالى

﴿يوم تبيض وجوه وتسود وجوه

وقال

﴿وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة

وهول المناداة بالسعادة أو الشقاوة وقال عليه السلام يكون عند كل كفة الميزان ملك فإذا ترجح كفة الخير نادى الملك الأول ألا إن فلانا سعد سعادة لا شقاوة بعدها أبدا وإذا ترجح الكفة الأخرى نادى الملك الثاني ألا إن فلانا شقي شقاوة لا سعادة بعدها أبدا والحكمة في هذه المحاسبة والأهوال مع أن المحاسب خبير والناقد بصير ظهور مراتب أرباب الكمال وفضايح أصحاب النقصان على رؤس الأشهاد زيادة في الذات هؤلاء ومسراتهم وآلام أولئك وأحزانهم ثم في هذا ترغيب في الحسنات وزجر عن السيئات وهل يظهر أثر هذه الأهوال في الأنبياء والأولياء والصلحاء والأتقياء فيه تردد والظاهر السلامة لقوله تعالى

﴿تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا

﴿ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون

ومنها الصراط وهو جسر ممدود على متن جهنم يرده الأولون والآخرون أدق من الشعر وأحد من السيف على ما ورد في الحديث الصحيح ويشبه أن يكون المرور عليه هو المراد بورود كل أحد النار على ما قال تعالى

﴿وإن منكم إلا واردها

وأنكره القاضي عبدالجبار وكثير من المعتزلة زعما منهم أنه لا يمكن الحظور عليه ولو أمكن ففيه تعذيب ولا عذاب على المؤمنين والصلحاء يوم القيامة قالوا بل المراد به طريق الجنة المشار إليه بقوله تعالى

﴿سيهديهم ويصلح بالهم

وطريق النار المشار إليه بقوله

﴿فاهدوهم إلى صراط الجحيم

وقيل المراد الأدلة الواضحة وقيل العبادات كالصلاة والزكاة ونحوهما وقيل الأعمال الردية التي يسأل عنها ويؤاخذ بها كأنه يمر عليها ويطول المرور بكثرتها ويقصر بقلتها والجواب أن إمكان العبور ظاهر كالمشي على الماء والطيران في الهواء غايته مخالفة العادة ثم الله تعالى يسهل الطريق على من أراد كما جاء في الحديث إن منهم من يمر كالبرق الخاطف ومنهم من يمر كالريح الهابة ومنهم من يمر كالجواد ومنهم من تخور رجلاه وتتعلق يداه ومنهم من يخر على وجهه ومنها الميزان قال الله تعالى

﴿ونضع الموازين القسط ليوم القيامة

وقال

﴿فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية

ذهب كثير من المفسرين إلى أنه ميزان له كفتان ولسان وساقان عملا بالحقيقة لإمكانها وقد ورد في الحديث تفسيره بذلك وأنكره بعض المعتزلة ذهابا إلى أن الأعمال أعراض لا يمكن وزنها فكيف إذا زالت وتلاشت بل المراد به العدل الثابت في كل شيء ولذا ذكره بلفظ الجمع وإلا فالميزان المشهور واحد وقيل هو الإدراك فميزان الألوان البصر والأصوات السمع والطعوم الذوق وكذا سائر الحواس وميزان المعقولات العلم والعقل وأجيب بأنه يوزن صحايف الأعمال وقيل بل تجعل الحسنات أجساما نورانية والسيئات أجساما ظلمانية وأما لفظ الجمع فللاستعظام وقيل لكل مكلف ميزان وإنما الميزان الكبير واحد إظهارا لجلالة الأمر وعظمة المقام ومنها الحوض قال تعالى

﴿إنا أعطيناك الكوثر

وفي الحديث حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه أكثر من نجوم السماء من شرب منها فلا يظمأ أبدا وقال الصحابة له عليه السلام أين نطلبك يوم الحشر فقال على الصراط فإن لم تجدوا فعلى الميزان فإن لم تجدوا فعلى الحوض قال المبحث الثامن في تقرير مذهب الحكماء في الجنة والنار والثواب والعقاب أما القائلون بعالم المثل فيقولون بالجنة والنار وسائر ما ورد به الشرع من التفاصيل لكن في عالم المثل لا من جنس المحسوسات المحضة على ما يقول به الإسلاميون وأما الأكثرون فيجعلون ذلك من قبيل اللذات والآلام العقلية وذلك أن النفوس البشرية سواء جعلت أزلية كما هو رأي أفلاطون أو لا كما هو رأي أرسطو فهي أبدية عندهم لا تفنى بجراب البدن بل تبقى ملتذة بكمالاتها مبتهجة بإدراكاتها وذلك سعادتها وثوابها وجنانها على اختلاف المراتب وتفاوت الأحوال أو متألمة بفقد الكمالات وفساد الاعتقادات وذلك شقاوتها وعقابها ونيرانها على ما لها من اختلاف التفاصيل وإنما لم تتنبه لذلك في هذا العالم لاستغراقها في تدبير البدن وانغماسها في كدورات عالم الطبيعة لما بها من العلايق والعوايق الزايلة بمفارقة البدن فما ورد في لسان الشرع من تفاصيل الثواب والعقاب وما يتعلق بذلك من السمعيات فهي مجازات وعبارت عن تفاصيل أحوالها في السعادة والشقاوة واختلاف أحوالها في اللذات والآلالم والتدرج مما لها من دركات الشقاوة إلى درجات السعادة فإن الشقاوة السرمدية إنما هي الجهل المركب الراسخ والشرارة المضادة للملكة الفاضلة لا الجهل البسيط والأخلاق الخالية عن غايتي الفضل والشرارة فإن شقاوتها منقطعة بل ربما لا تقتضي الشقاوة أصلا وتفصيل ذلك أن فوات كمالات النفس يكون إما لأمر عدمي كنقصان غريزة العقل أو وجودي كوجود الأمور المضادة للكمالات وهي إما راسخة أو غير راسخة وكل واحد من الأقسام الثلاثة إما أن يكون بحسب القوة النظرية أو العملية يصير ستة فالذي بحسب نقصان الغريزة في القوتين معا فهو غير مجبور بعد الموت ولا عذاب بسببه أصلا والذي بسبب مضاد راسخ في القوة النظرية كالجهل المركب الذي صار صورة للنفس غير مفارقة عنها فغير مجبور أيضا لكن عذابه دايم وأما الثلاثة الباقية أعني النظرية غير الراسخة كاعتقادات العوام والمقلدة والعملية الراسخة وغير الراسخة كالأخلاق والملكات الردية المستحكمة وغير المستحكمة فيزول بعد الموت لعدم رسوخها أو لكونها هيئات مستفادة من الأفعال والأمزجة فيزول بزوالها لكنها تختلف في شدة الرداءة وضعفها وفي سرعة الزوال وبطئه فيختلف العذاب بها في الكم والكيف بحسب الاختلافين وهذا إذا عرفت النفس أن لها كمالا فإنها لاكتسابها ما يضاد الكمال أو لاشتغالها بما يصرفها عن اكتساب الكمال أو لتكاسلها في اقتناء الكمال وعدم اشتغالها بشيء من العلوم وأما النفوس السليمة الخالية عن الكمال وعما يضاده وعن الشوق إلى الكمال فتبقى في سعة من رحمة الله تعالى خالصة من البدن إلى سعادة تليق بها غير متألمة بما يتأذى به الأشقياء إلا أنه ذهب بعض الفلاسفة إلى أنها لا يجوز أن تكون معطلة عن الإدراك فلا بد أن تتعلق بأجسام أخر لما أنها لا تدرك إلا بالآلات الجسمانية وحينئذ إما أن تصير مبادي صور لها وتكون نفوسا لها وهذا هو القول بالتناسخ وإما أن لا تصير وهذا هو الذي مال إليه ابن سينا والفارابي من أنها تتعلق بأجرام سماوية لا على أن تكون نفوسا لها مدبرة لأمورها بل على أن تستعملها لإمكان التخيل ثم تتخيل الصور التي كانت معتقدة عندها وفي وهمها فتشاهد الخيرات الأخروية على حسب ما تتخيلها قالوا ويجوز أن يكون هذا الجرم متولدا من الهواء والأدخنة من غير أن يقارن مزاجا يقتضي فيضان نفس إنسانية ثم إن الحكماء وإن لم يثبتوا المعاد الجسماني والثواب والعقاب المحسوسين فلم ينكروها غاية الإنكار بل جعلوها من الممكنات لا على وجه إعادة المعدوم وجوزوا حمل الآيات الواردة فيها على ظواهرها وصرحوا بأن ذلك ليس مخالفا للأصول الحكمية والقواعد الفلسفية ولا مستبعد الوقوع في الحكمة الإلهية لأن للتبشير والإنذار نفعا ظاهرا في أمر نظام المعاش وصلاح المعاد ثم الإيفاء بذلك التبشير والإنذار بثواب المطيع وعقاب العاصي تأكيد لذلك وموجب لازدياد النفع فيكون خيرا بالقياس إلى الأكثرين وإن كان ضرا في حق المعذب فيكون من جملة الخير الكثير الذي يلزمه شر قليل بمنزلة قطع العضو لإصلاح البدن قال المبحث التاسع الثواب فضل من الله تعالى والعقاب عدل من غير وجوب عليه ولا استحقاق من العبد خلافا للمعتزلة إلا أن الخلف في الوعد نقص لا يجوز أن ينسب إلى الله تعالى فيثيب المطيع البتة إنجازا لوعده بخلاف الخلف في الوعيد فإنه فضل وكرم يجوز إسناده إليه فيجوز أن لا يعاقب العاصي ووافقنا في ذلك البصريون من المعتزلة وكثير من البغداديين ومعنى كون الثواب أو العقاب غير مستحق أنه ليس له حقا لازما يقبح تركه وأما الاستحقاق بمعنى ترتبهما على الأفعال والتروك وملايمة إضافتهما إليهما في مجاري العقول والعادات فمما لا نزاع فيه كيف وقد ورد بذلك الكتاب والسنة في مواضع لا تحصى وأجمع السلف على أن كلا من فعل الواجب والمندوب ينتهض سببا للثواب ومن فعل الحرام وترك الواجب سببا للعقاب وبنوا أمر الترغيب في اكتساب الحسنات واجتناب السيئات على إفادتهما الثواب والعقاب لنا وجوه

الأول وهو العمدة ما مر أنه لا يجب على الله تعالى شيء لا الثواب على الطاعة ولا العقاب على المعصية

Halaman 225