شرح كتاب سيبويه
تأليف
أبي سعيد السيرافي الحسن بن عبد الله بن المرزبان المتوفى سنة ٣٦٨ هـ
تحقيق
أحمد حسن مهدلي
علي سيد علي
[المجلد الأول]
دار الكتب العلمية
Halaman tidak diketahui
المقدمة
لقد مدح أبو عثمان الجاحظ أنواع العلوم، ومنها علم النحو، حيث سئل عنه، فقال:
" يبسط من العي اللسان، ويجزي من حصر البيان، وبه يسلم من هجنة اللحن وتخريف القول، وهو آلة لصواب المنطق، وتسديد لكلام العرب (١).
ومن هنا كانت المكانة الرفيعة التي حظي بها كتاب سيبويه، أو (أبو النحو العربي) كما يطلقون عليه، الذي يعتبر تصنيفه (الكتاب) أشهر كتاب في النحو، فكان جديرا بالتربع- دون منازع- على قمة علم النحو، إذ أن مكانة سيبويه وأهميته ترجع إلى أنه أول من سجل قواعد النحو العربي، وأرسى أسس معالمه واتجاهاته.
وقد اقتضت الأمانة العلمية أن نذكر فضل المستشرق الفرنسي (هرتويج دبرنبورج) على كتاب سيبويه، حيث نشره في العام ١٨٨١، أي قبل أن تظهر طبعة بولاق بمصر بعشرين عاما، وذلك في ألف صفحة مع مقدمة وحواش في مجلدين، مع ترجمته إلى الفرنسية (٢).
ومن هذه المكانة الرفيعة التي اعتلاها (الكتاب) استمد (شرح أبي سعيد السيرافي) شهرته وتفرده بالصيت دون سائر الشروح التي تعرضت للكتاب؛ لأنه أقدم شرح وصل إلى أيدينا، فكان محور اهتمام الباحثين والدارسين في الشرق والغرب على السواء.
ولعل المستشرق الألماني (يان) من أسبق الذين نشروا مقتطفات من (شرح السيرافي)، عند ما نقل كتاب سيبويه إلى اللغة الألمانية ..
وهي ذات المقتطفات التي استعانت بها مطبعة بولاق بمصر عند ما نشرت كتاب
_________
(١) كتاب الحكم والأمثال، لأبي أحمد العسكري.
(٢) مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي، د. الطناحي.
1 / 3
سيبويه، فكانت- بحق- إشراقة فجر التعريف ب (السيرافي) في البيئة العربية اللغوية، حيث اطلع القراء على بعض من شروحه للكتاب عند ما تداولته الأيدي من مطبعة بولاق.
ومع هذه المبادرة المبكرة التي كنا نأمل أن تكون فاتحة للمزيد، إلا أن (شرح السيرافي) لم يحظ بوضوح النهار الذي بدأ فجره الألماني (يان) فاستمرت النسخ المخطوطة لشرح السيرافي حبيسة الأسر والظلمات عشرات السنين، إلى أن تنبهت إليه الأوساط البحثية في الثلث الأخير من القرن العشرين.!!
إلى أن شاءت المقادير أن نتعرض- مرة أخرى- بعد هذه الصحوة المتأخرة، لنعيد قراءة (شرح السيرافي) ندلو بدلونا في هذا المضمار مسترشدين بمحاولات من سبقونا، آملين أن نضيف بعضا مما نراه يسهم في اقتراب النص إلى الكمال، ولله الكمال وحده، وهي غاية البحث والتحقيق أن يصلا بالنص إلى الصورة التامة التي قصدها المؤلف.
السيرافي:
ترجمت له كتب التراجم والطبقات، ولكن أقدم هذه التراجم، ما ورد في كتاب (الفهرست) لابن النديم الذي ألفه عام ٣٧٧ هـ، حيث يقول:
" قال الشيخ أبو أحمد، أمده الله: أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان، وأصله من فارس، مولده ب (سيراف)، وفيها ابتدأ بطلب العلم، وخرج عنها قبل العشرين من عمره، ومضى إلى عمان وتفقه بها، ثم عاد إلى سيراف، ومضى إلى العسكر فأقام بها مدة ولقي محمد بن عمر الصيمري المتكلم، وكان يقدّمه ويفضله على جميع أصحابه، وكان فقيها على مذاهب العلماء العراقيين، وخلف القاضي أبا محمد بن معروف على قضاء الجانب الشرقي، وكان أستاذه في النحو، ثم الجانبين، وكان الكرخي الفقيه يقدمه ويفضله، وعقد له حلقة يفتي فيها، ومولده قبل التسعين، وتوفي في رجب لليلتين خلتا من سنة ثمان وستين وثلاث مائة " (١).
وكتب التراجم والطبقات- على رحابتها- التي ذكرت السيرافي قد تراوحت بين أمرين من حياة الرجل:
_________
(١) كتاب الفهرست، لابن النديم، طبعة فليجل.
1 / 4
فمنها ما اهتم بذكر المصنفات والمؤلفات، كما هو مستفاد من كتاب (ابن النديم) الفهرست، ومنها ما اهتم بذكر حياته الإنسانية والعلمية، كما أخبرنا (البغدادي) المتوفى (٤٦٤ هـ) في كتابه: تاريخ بغداد.
ثم أن ما تلا هذين المصنفين من كتب التراجم والطبقات، قد اقتفى آثارهما واعتمد عليهما في ثبت المعلومات، عن حياة السيرافي وتاريخه العلمي. نذكر منها:
- كتاب الأنساب للسمعاني (ت ٥٦٢ هـ).
- نزهة الألباء، لابن الأنباري (ت ٥٧٧ هـ).
- إرشاد الأريب، لياقوت الحموي (ت ٦٢٠ هـ).
ويعتبر إرشاد الأريب من أهم المصادر المتأخرة التي اعتنت بحياة السيرافي.
ثم توالت المؤلفات والمصادر التي تعني بتراجم الأعلام، وهي على تواترها- أي المؤلفات والمصادر- لا ترقى إلى مرتبة كتابي: الفهرست، لابن النديم، وتاريخ بغداد، للبغدادي.
السيرافي العالم:
السيرافي، نسبة إلى مكان ميلاده (سيراف) وهي مدينة من مدن بلاد فارس حيث تربطها علاقات تجارية مع بلاد الهند بحكم موقعها الجغرافي، الواقع جنوبا من بلاد فارس.
وقد أتاحت له نشأته أن يتقن الفارسية، لغة قومه وعشيرته، واللغة العربية، التي كانت- إذا صح التعبير- لغة المراسم والدواوين، فضلا عن كونها لسان التخاطب بين سائر الناس من سكان البلاد.
وكان السيرافي قد أتمّ بعضا من معارفه وعلومه اليسيرة في مدينته (سيراف) حيث إنها لم تكن بيئة علمية، وإنما كانت- كما ذكرنا- مركزا للتجارة والمال.
ثم انصرف عن (سيراف) مسقط رأسه قبيل بلوغه عامه العشرين من عمره قاصدا بلاد (عمان) لدراسة علوم الفقه، ثم ارتحل إلى (عسكر مكرم) حيث انتظم في حلقات الصّيمري المعتزلي، المتوفى سنة ٣١٥ هـ، فكان السيرافي نابغة الحلقة وفارسها الذي يشار إليه بالبنان.
ونظرا لأن بغداد- حاضرة حواضر الدنيا- كانت ذاخرة بالمعارف والعلوم
1 / 5
والعلماء، فأحبّ أبو سعيد أن يسبح في موجات معارفها وعلومها، إذ كانت بغداد مطمح العلماء ومقصد المتعلمين وقبلتهم.
فوصل السيرافي إلى بغداد لينهل من روافدها، التي صنعت منه- فيما بعد- لغويّا عالما بأسرار العربية، فذاع صيته حتى أفاء الله عليه بوضع شرحه المستفيض لكتاب الكتب (الكتاب) لإمام النحويين سيبويه، الذي كان محور الدراسات اللغوية وعمدتها في بغداد، ثم طارت شهرة السيرافي وملأت الفضاء على رحابته، فعرف كمدرس وقاض.
ولكنهما- كمهنة- لم يكفياه مؤنة العيش، فقد كان زاهدا لا يعتاش إلا من كدّ يده، فكان يعتمد على مهنة النسخ حيث
ينسخ في اليوم بعض وريقات تكفيه دراهمها المعدودات متطلبات الحياة فحسب، فقد كان يرى- وهو الزاهد- ضرورة التدريس بدون مقابل، كما كان يرفض أجره عن عمله كقاض؛ لأن نشر العدالة، ورد المظالم، وإعادة الحقوق يجب أن تكون خالصة لوجه الله تعالى، هكذا كانت حياته وفلسفته ورسالته، ولعلها كانت سمة من سمات السلف؛ لأن التاريخ العربي الإسلامي حافل بالأعلام الذين لم يتقاضوا أجرا مقابل التدريس والقضاء ... !
شيوخه:
- أبو بكر محمد بن السري، المعروف ب (ابن السرّاج).
- أبو بكر محمد بن علي، المعروف ب (مبرمان).
- أبو بكر بن دريد.
- أبو بكر بن مجاهد (عالم القراءات).
- الصيمري المعتزلي.
تلاميذه:
- إبراهيم بن علي إسحاق الفارسي.
- أحمد بن بكر العبدي.
- إسماعيل بن حماد الجوهري. (ت ٣١٣ هـ). صاحب معجم الصحاح.
- أبو البركات محمد بن عبد الواحد الزبيدي الأندلسي.
- أبو حيان التوحيدي. (ت ٤١٤ هـ).
- الحسين بن محمد بن جعفر. (ت ٣٨٨ هـ).
1 / 6
- ابن خالويه، اللغوي. (ت ٣٧٠ هـ).
- عبد الله بن الرقاق. (ت ٣٨٧ هـ).
- عبد الواحد بن رزمه.
- عبيد الله بن أحمد العراري. (ت ٣٨٢ هـ).
- علي عبد الله السمعي. (ت ٤١٥ هـ).
- علي بن عبيد بن الرقاق. (ت ٣٤٥ هـ).
- علي بن عيسى الربعي، النحوي. (ت ٤٢٠ هـ).
- علي بن محمد بن عبد الرحيم بن دينار. (ت ٣٢٣ هـ).
- محمد بن أحمد بن عمر الحلال.
- محمد بن محمد بن عباد. (ت ٣٣٤ هـ).
- معز الدولة ابن بويه.
مؤلفاته:
١ - شرح شواهد سيبويه.
٢ - كتاب ألفات الوصل والقطع.
٣ - كتاب أخبار النحويين البصريين.
٤ - كتاب الوقف والابتداء.
٥ - كتاب صنعة الشعر والبلاغة.
٦ - الإقناع في النحو.
٧ - شرح مقصورة ابن دريد.
٨ - المدخل إلى سيبويه.
1 / 7
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو سعيد: قال سيبويه:
هذا باب «علم ما الكلم من العربية»
هذا موضوع كتابه الذي نقله عنه أصحابه، ويسأل في ذلك عن أشياء:
فأولها: أن يقال: إلام أشار سيبويه بقوله: " هذا ". والإشارة بها تقع إلى حاضر؟
فالجواب عن ذلك أنه يحتمل ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون أشار إلى ما في نفسه من العلم، وذلك حاضر، كما يقول القائل: " قد نفعنا علمك هذا الذي تبثه، وكلامك هذا الذي تتكلم به ". والثاني: أن يكون أشار إلى متوقّع قد عرف وانتظر وقوعه في أقرب الأوقات إليه. فجعله كالكائن الحاضر تقريبا لأمره، كقوله: " هذا الشتاء مقبل ". و" هذا الخليفة قادم "، ومثله قول الله ﷿: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (١).
والثالث: أن يكون وضع كلمة الإشارة غير مشير بها؛ ليشير بها عند الحاجة.
والفراغ من المشار إليه. كقولك: " هذا ما شهد عليه الشهود المسمّون في هذا الكتاب " وإنما وضع ليشهدوا وما شهدوا بعد.
وأما " علم " فمصدر، إما أن يكون مصدر أن تعلم أو أن يعلم، لأن المصادر العاملة عمل الأفعال تقدر بأن الخفيفة والفعل بعدها.
فإذا قدّر " علم " بأن تعلم، كان الكلام على " ما " من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون استفهاما، فإذا كانت كذلك كان لفظها رفعا، لو تبين الإعراب فيه، ويكون ارتفاعه بالابتداء، ويكون " الكلم " خبره، أو يكون " الكلم " الابتداء، و" ما " خبر مقدمة، ويكون موضع الجملة التي هي ابتداء وخبر نصبا، ويكشف هذا المعنى لك أنك لو جعلت مكانها " أيّا " لقلت " هذا باب علم أي شيء الكلم من العربية، فترفع " أيّ " ويكون موضعها مع الكلم نصبا، لأنك أردت: هذا باب أن تعلم.
فإذا لم تكن استفهاما قلت: هذا باب علم مسألتك، وتبين الإعراب فيه؛ لأنه ليس باستفهام يمتنع عمل ما قبله فيه، وإنما لم يعلم ما قبل " أيّ " و" ما " والأسماء التي يستفهم بها فيها، من قبل أن هذه الأسماء المستفهم بها نائبة عن ألف الاستفهام، متضمنة لمعناها،
_________
(١) سورة الرحمن، آية ٤٣.
1 / 9
وليس بجائز أن يعمل ما قبل ألف الاستفهام فيما بعده؛ لأن حرف الاستفهام يقع صدر الكلام، كما تقع " ما " النافية، و" إنّ " المؤكدة، والحروف الداخلة على الجمل لها صدور الكلام.
والوجه الثاني من وجوه " ما " أن تكون بمعنى " الذي " ويكون صلتها هو " الكلم " و" هو " محذوفة، وحذفها جائز، كأنك قلت: هذا باب علم الذي هو الكلم " من العربية "، والدليل على جواز حذفها قول الله تعالى في قراءة بعضهم ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَمامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ (١) يريد الذي هو أحسن. وكما قرأ بعضهم: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها (٢) أراد ما هو بعوضة وكما قرأ بعضهم: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٣) أراد أيهم هو. بمعنى: الذي هو. وحكى " الخليل " (٤): " ما أنا بالذي قائل لك شيئا " أراد: بالذي هو قائل لك شيئا.
والوجه الثالث: أن تكون " ما " صلة، ويكون دخولها كخروجها في تغيير إعراب غيرها، إلا أنها تؤكد المعنى الذي تدخل فيه، فيكون اللفظ: هذا باب علم، ما الكلم من العربية.
وإذا كان " علم " مصدر " أن يعلم " كان الكلام فيه كالكلام في " أن تعلم " إلا في موضعين:
أحدهما: موضع " ما " إذا جعلناه منصوبا هناك جعلناه مرفوعا هاهنا.
والوجه الثاني: إذا جعلنا " ما " صلة هناك، فنصبنا الكلم رفعناه هاهنا.
ويجوز إضافة " علم " وترك التنوين منها، و" ما " محتملة لوجوهها الثلاثة، فإذا كانت استفهاما، كان لفظها رفعا على ما قلنا آنفا وموضعها بما بعدها خفضا، وإذا كانت بمعنى " الذي " كانت مخفوضة بالإضافة، وصلتها على ما وصفنا، وإذا كانت صلة كان " الكلم " خفضا، ولفظه: هذا باب علم ما الكلم من العربية.
_________
(١) سورة الأنعام، آية ١٥٤.
(٢) سورة البقرة، آية ٢٦.
(٣) سورة مريم، آية ٦٩.
(٤) الخليل بن أحمد، أبو عبد الرحمن البصري، أخذ عنه سيبويه وهو واضع علم العروض. توفي سنة ١٦٠ هـ، وقيل: ١٧٠ هـ. نزهة الألباء: ٤٥.
1 / 10
وفي صحة إضافة " علم " إلى " ما " - وهي استفهام- نظر؛ لأنه يجوز أن يفرق بين وقوع الخافض على الاستفهام، وبين وقوع الناصب، وذلك أن الناصب قد يعلّق ويبطل عمله؛ ألا ترى أنّا نقول: قد علمت " أزيد في الدار أم عمرو " و" علمت أيهم في الدار "، " وأتيت أيهم في الدار "، ولا نقول: " أنبئت بأيّهم في الدار، وأنبئت أيهم في الدار ".
ويجوز تنوين " الباب "؛ فإذا نوّن جاز في " العلم " الرفع والنصب، فإذا نصبت فعلى التمييز، كأنك لما قلت: " هذا باب " احتمل أن يكون بابا من العلم وغيره، كما أنك إذا قلت: " أخذت عشرين " احتمل أن يكون من الدراهم وغيرها، فإذا ذكرت نوعا مما تحتمله نصبته، كذلك إذا ذكرت نوعا مما يحتمل " الباب " نصبته.
وإذا رفعته ففيه ثلاثة أوجه مرضيّة:
أحدها: أن يكون " هذا " مبتدأ، و" باب " خبره، و" علم " خبر مبتدأ محذوف، كأنك قلت: هذا باب، هذا علم، أو قلت: هذا باب هو علم ما الكلم.
والثاني: أن يكون " باب " خبر " هذا "، ويكون " علم " بدلا منه واقعا موقعه، كأنك قلت: هذا " علم " ما الكلم.
والثالث: أن يكون " باب " و" علم " جميعا خبرين ل " هذا " كما تقول: " هذا حلو حامض " تريد: قد جمع الطعمين، ومثله قول الشاعر:
من يك ذا بت فهذا بتي ... مصيّف مقيّظ مشتى
تخذته من نعجات ست ... سود جعاد من نعاج الدست (١)
ويجوز هذا بابا علم ما الكلم، فيكون " هذا " مبتدأ، وبابا منصوبا على الحال، والخبر علم، و" بابا " في معنى مبوّبا، والعامل في نصبه ما في هذا من التنبيه والإشارة، كقول الشاعر:
أترضى بأنا لم تجف دماؤنا ... وهذا عروسا باليمامة خالد (٢)
وأما " الكلم " فقد يسأل السائل فيقول: لم لم يقل: الكلام، أو الكلمات؟ لجواب أن الكلام يقع على القليل والكثير، والواحد والاثنين والجمع، والكلم: جماعة كلمة، كما
_________
(١) الرجز لرؤبة بن العجاج، انظر ديوانه ١٨٩، والدرر اللوامع ١/ ٧٨؛ ٢/ ٨٤، والهمع ١/ ١٠٨.
(٢) البيت بلا نسبة، انظر تثقيف اللسان ١٠٣.
1 / 11
تقول: خلفة وخلف وخربة وخرب، وإنما أراد سيبويه أن يبين الاسم والفعل والحرف، وهي جمع، فأراد أن يعبر عنها بأشكل الألفاظ بها وأشبهها بحقيقتها، ولم يقل " الكلمات "؛ لأنها جمع مثل الكلم. والكلم أخف منها في اللفظ، فاكتفى بالأخف عن الأثقل، إذ لم يكن في أحدهما مزية على الآخر.
ووجه ثان: أن الكلم اسم ذات الشيء، والكلام اسم الفعل المصرّف من الكلم، كما أن النعل الملبوسة اسم ذات الملبوس، والانتعال والتنعيل والإنعال، وما أشبهه اسم الفعل المصرّف منها، والفعل قبل ما صرّف منها، فكذلك الكلم قبلما يصرّف منها، وأقدمها في الرتبة اسم الذات، فذكره دون اسم الحدث، والمصدر الذي هو فرع، ولو ذكر الكلام، ما كان معيبا، ولكنه اختار الأفصح الأجود لمعناه الذي أراده.
وفي ذكرنا هذا ونحوه، والبحث عنه، مما يدرّب به المتعلم، وينشرح به صدر العالم.
وللسائل أن يسأل فيقول: لم قال: " الكلم من العربية "، والكلم أعمّ من العربية، لأنها تشملها والعجمية، وبعض الشيء أقل من جمعه، والذي يتصل بمن هو المبعّض لا البعض، وهو الكثير الذي يذكر منه القليل؟ قيل له: في ذلك جوابان:
أحدهما: أنه ذكر " الكلم " التي هي شاملة على جميع موضع الكلام، وأراد بعضها، لأنه رائز سائغ ذكر اللفظ العام وإرادة البعض، ثم بيّن البعض المراد، خشية اللبس، فكأنه لما قال: " ما الكلم " وهو مريد لبعضها خشي ألا يفهم المعنى الذي هو مراده، فقال: " من العربية "، تبيينا لما أراد، وتلخيصا لما قص!، لئلا يبقى للسائل مسألة ولا
للطاعن متعلّقا، ومثله قوله ﷿: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ (١) لما كان الرجس يقع على الأوثان وغيرها بين الذي أراد بالنهي من ضروب الرجس.
والوجه الثاني: أن يكون أراد بالكلم الاسم والفعل والحرف الذي جاء لمعنى، وهو ما ضمنه هذا الباب الذي ترجمه به، وهذه الجملة هي اسم وفعل وحرف، هن بعض العربية؛ لأن العربية جملة وتفصيل، وليست هذه الجملة كل العربية، والدليل على ذلك أنه ليس من أحاط علما بحقيقة الاسم والفعل والحرف أحاط علما بالعربية كلها، والدليل
_________
(١) سورة الحج، آية ٣٠.
1 / 12
على هذا التأويل الثاني من قول سيبويه قوله: " هذا باب علم ما الكلم من العربية " ولم يقل: هذا كتاب علم، فقد أنبأك هذا عن صحة ما بينا، فجملة اللفظ في ترجمة هذا الباب:
هذا باب علم ما الكلم من العربية.
هذا باب علم ما الكلم من العربية.
هذا باب علم ما الكلم من العربية.
هذا باب علم ما الكلم من العربية.
هذا باب علم ما الكلم من العربية.
هذا باب علم ما الكلم من العربية.
هذا باب علم ما الكلم من العربية.
هذا باب علم ما الكلم من العربية.
هذا باب علم ما الكلم من العربية.
هذا باب علم ما الكلم من العربية.
هذا باب علم ما الكلم من العربية.
هذا باب علم ما الكلم من العربية.
هذا باب علم ما الكلم من العربية.
هذا باب علم ما الكلم من العربية.
هذا باب علم ما الكلم من العربية.
هذا بابا علم ما الكلم من العربية
هذا بابا علم ما الكلم من العربية
هذا بابا علم ما الكلم من العربية
هذا بابا علم ما الكلم من العربية
هذا بابا علم ما الكلم من العربية
فذلك خمسة عشر لفظا.
وأما إدخال الفاء في " الكلم " فلوجهين: أحدهما أن يكون جوابا للتنبيه الذي في قوله: " هذا " لأن التنبيه في معنى انظر وتنبه، فكأنه قال: انظر، فالكلم: اسم وفعل وحرف.
والوجه الثاني: أن كل جملة فهي مفيدة معنى ما، وعلى ذلك موضوعها، وقوله:
" هذا باب علم ما الكلم " إلى آخر السطر، جملة مفيدة معنى، والجمل كلها يجوز أن تكون أجوبتها بالفاء كقولك: " زيد أبوك فقم إليه " فكأن الفاء في قوله: " فالكلم " جواب الفائدة التي في الترجمة، ودخول الفاء هاهنا كدخولها في الجواب من المجازاة وغيرها.
وإن سأل سائل فقال: لم قال: وحرف جاء لمعنى، وقد علمنا أن الأسماء والأفعال جئن لمعان؟
1 / 13
قيل له: إنما أراد: وحرف جاء لمعنى، في الاسم والفعل، وذلك أن الحروف إنما تجيء للتأكيد، كقولك: " إن زيدا أخوك "، وللنفي كقولك: " ما زيد أخاك " و" لم يقم أبوك "، وللعطف كقولنا: " قام زيد وعمرو " ولغير ذلك من المعاني التي تحدث في الأسماء والأفعال، وإنما تجيء الحروف مؤثرة في غيرها بالنفي والإثبات، والجمع والتفريق، وغير ذلك من المعاني.
والأسماء والأفعال معانيها في أنفسها، قائمة صحيحة، والدليل على ذلك أنه إذا قيل: ما الإنسان؟ كان الجواب عن ذلك أن يقال: الذي يكون حيّا ناطقا كاتبا، وإذا قيل ما الفرس؟ قال: الذي يكون حيّا له أربع قوائم وصهيل، وغير ذلك من الأوصاف، التي تخص المسمى.
وإذا قيل: ما معنى " قام "؟ قيل: وقوع قيام في زمان ماض فعقل معناه في نفسه قبل أن يتجاوز به إلى غيره، وليس كذلك الحروف؛ لأنه إذا قيل ما معنى " من "؟ كان الجواب:
أنه يبعّض بها الجزء من الكل، الجزء غير " من " وكذلك الكل، ولم يعقل معنى تحتها غير الجزء والكل، فعلمنا أنها
تؤثر في المعاني، ولا يعقل معناها إلا بغيرها.
ووجه آخر، وهو أن قوله: وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل.
أي جاء لمعنى ذلك المعنى ليس باسم، أي: ليس بدال عليه الاسم، " ولا فعل " أي:
بدال عليه الفعل.
وفيه جواب آخر، وهو أن حروف المعاني، لما كانت تدخل لتغيير معنى ما تدخل عليه، أو إحداث معنى لم يكن فيه، فإذا انفردت لم تدل على ذلك، صارت بمنزلة الياء والتاء والنون والهمزة، اللاتي يدللن على الاستقبال، والألف التي تدخل في " ضارب " زائدة على حروف " ضرب " وتدل على اسم الفاعل، وحروف المضارعة، وألف ضارب وما يجري مجراه- كبعض حروف ما دخلن عليه، لتغييرها معنى إلى معنى كتغيير حروف المضارعة، وألف " ضارب ".
وأما " الاسم " فإن سيبويه لم يحده بحد ينفصل به عن غيره، وينماز من الفعل والحرف، وذكر منه مثالا اكتفى به عن غيره، فقال: " الاسم رجل وفرس ".
وإنما اختار هذا؛ لأنه أخف الأسماء الثلاثية، وأخفها ما كان نكرة للجنس، وهذا نحو " رجل وفرس ".
1 / 14
إن سأل سائل عن حد الاسم، فإن الجواب في ذلك أن يقال: كل شيء دل لفظه على معنى غير مقترن بزمان محصّل، من مضىّ أو غيره فهو اسم.
فهذا الحد الذي لا يخرج منه اسم البتة، ولا يدخل فيه غير اسم. وتوهم بعض الناس أن " مضرب الشّول "، وما جرى مجراه، قد دل على الضّراب، وعلى الزمان الذي يقع فيه، وأراد بذلك إفساد ما ذكرناه من حد الفعل بدلالته على الحدث والزمان، وقد وهم فيما توهم؛ لأن الذي أردناه من الدلالة على الزمان، هو ما يدل عليه الفعل بلفظه من زمان ماض أو غير ماض، كقولك: " قام، ويقوم " و" مضرب " اسم للزمان الذي يقع فيه الضّراب دون الضرّاب، كقولنا: مشتى ومصيف، وقولك: " أتى مضرب الشول "، و" انقضى مضرب الشول ". كما يقال: جاء وقته، وذهب وقته. ولو كانت الأسماء المشتقة توجب ألا ينفرد المشتق له بالاسم إلا أن ينضم إليه المعنى الذي اشتق منه اللفظ، لكان الزاني يقتضي الرجل والزنى جميعا، وكنا إذا قلنا لعن الله الزاني فقد أدخلنا الزنى معه في اللعن، وهذا بيّن الفساد.
وأما الفعل فللسائل أن يسأل فيقول: لم لقّب هذا بالفعل وقد علمنا أن الأشياء كلها أفعال لله تعالى ولخلقه:
فالجواب في ذلك أن الفعل في حقيقته ما فعله فاعله فأحدثه، وإنما لقّب النحويون أشياء من ألفاظهم ليرتاض بها
المتعلمون ويتناولوها من قرب، وجعلوا لكل شيء مما خالف معناه معنى غيره من الألفاظ التي يحتاجون إلى استعمالها كثيرا لقبا يرجع إليه: لئلا تتسع عليهم الألفاظ، فيدخل الشيء في غير بابه احتياطا، فلقبوا بالفعل كل ما دل لفظه على حدث مقترن بزمان، ماض، أو مستقبل، أو مبهم في الاستقبال والحال، لينماز مما لقبوه بالاسم والحرف.
فقال سيبويه: " وأما الفعل فأمثلة ":
وقصد إلى هذا الجنس الذي ذكرناه، وقوله: " أمثلة " أراد به: أبنية؛ لأن أبنية الأفعال مختلفة، فمنها على " فعل " نحو " ضرب " ومنها على " فعل " نحو " علم " و" فعل " نحو " ظرف " وغير ذلك من الأبنية، وهي تسعة عشر بناء لما سمّي فاعله، ولا يعد فيها ما يلحق من الثلاثي بالرباعي كبيطر وحوقل وسلقى ونحو ذلك، وإنما بعد الثلاثة غير الملحقة، والرباعية يدخل فيها ما ألحق بها.
1 / 15
وقال: " أخذت من لفظ أحداث الأسماء ".
يعني أن هذه الأبنية المختلفة أخذت من المصادر التي تحدثها الأسماء وإنما أراد بالأسماء أصحاب الأسماء وهم الفاعلون. فإن سأل سائل، فقال ما الدليل على أن الأفعال مأخوذة من المصادر؟ قيل له في ذلك ثلاثة أوجه:
أولها: أن الفعل دال على مصدر وزمان والمصدر يدل على نفسه فقط، وقد علمنا أن المصدر أحد الشيئين اللذين دل عليهما الفعل وقد صح في الترتيب أن الواحد قبل الاثنين، فقد صح أن المصدر قبل الفعل؛ لأنه أحد الشيئين اللذين دل عليهما الفعل.
والوجه الثاني: أن الفعل يصاغ بأمثلة مختلفة، نحو " ضرب ويضرب واضرب " والمصدر في جميع ذلك واحد فصار المصدر هو الذي يصاغ منه أمثلة الفعل المختلفة؛ لأنه واحد يوجد فيها كلّها، ويبين ذلك أن الفضة والذهب وغيرهما، مما يصاغ منه الصور الكثيرة المختلفة أصل للصور لوجوده في كل واحد منها، وكذلك المصدر أصل الأفعال؛ لوجوده في كل واحد من أمثلتها المختلفة.
والوجه الثالث: أن الفعل أثقل من الاسم، وهو فرع عليه، من قبل أنه لا يقوم بنفسه، والفرع لا بد له من أصل يؤخذ منه، يكون حكم ذلك الأصل أن يكون قائما بنفسه، غير محتاج إلى سواه، فعلمنا بذلك أن الفعل فرع، ولا أصل له غير المصدر.
فإن قال قائل: إذا كان المصدر قد يعتل باعتلال الفعل ويصح بصحته، فهلا دلكم ذلك على أن المصدر فرع على الفعل الذي يعتل باعتلاله ويصح بصحته قيل له في ذلك جوابان: أحدهما: أن الأصل قد يعتل باعتلال الفرع إذا كان
كل واحد منهما يؤول إلى الآخر، وينبئ كل واحد منهما على صاحبه؛ ليتسق ولا يختلف؛ من ذلك أنا قد بنينا الفعل المضارع في فعل المؤنث نحو " يضربن " وأشباه ذلك على " ضربن "، وهو فرع؛ لأن المستقبل قبل الماضي. ومنه ما زعم " الفراء "، الذي ينازعنا أصحابه- في هذا الأصل- أن فعل الواحد الماضي فتح لانفتاح فعل الاثنين، والواحد أصل الاثنين، فحمل الأصل على الفرع.
والوجه الثاني، أن أصل المصادر التي لا علة فيها ولا زيادة لا يجيء إلا صحيحا، وهو " فعل " نحو " ضربته ضربا " و" وعدته وعدا ". وإنما يجيء معتلا ما لحقته الزيادة، وإنما الكلام في أصول المصادر، لا في فروعها، فتبين ذلك.
1 / 16
فإن قال قائل: إذا كان الفعل يعمل في المصادر، وحكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه، فهلا دلّكم ذلك على أن الفعل قبل المصدر؟
قيل له هذا ساقط من وجهين: أحدهما: أنه لا فعل إلا وهو عامل في اسم، ومع هذا فالأسماء قبل الأفعال في الرتبة، لقيامها بأنفسها، واستغنائها عن الأفعال، ولا يعمل اسم في فعل، فلو كان جنس عمل العامل في المعمول فيه في غير ترتيب عمله، يوجب أن يكون العامل قبل المعمول فيه، لوجب أن تكون الأفعال قبل الأسماء، ووجب من ذلك ما هو أقبح من ذلك، وهو أن تكون الحروف قبل الأسماء والأفعال؛ لأنها تكون عاملة في الأسماء والأفعال، ولا يعملان فيها، وهذا محال فاسد؛ لأن الحروف جاءت لمعان في الأسماء والأفعال، ولا يقمن بأنفسهن.
والوجه الثاني: أن قولنا: " ضربت ضربا " معناه أوقعت ضربا، وفعلت ضربا كقولك: " قتلت زيدا " أعني من جهة أنهما مفعولان.
وإن كان " زيد " موجودا قبل قتلك إياه، والضرب معدوما، قبل إيقاعك إياه: إلا أنك تعرفه وتقصد إليه وتأمر به، فلما كان معناها أوقعت ضربا وقد كان الضرب معقولا مقصودا إليه مذكورا، يصح الأمر به- صح أنه- قبل إيقاعك معلوم، فإذا صح ذلك فهو الفعل.
فإن قال قائل: إذا قلنا: " ضربت زيدا ضربا " فالمصدر تأكيد للفعل، وإذا كان تأكيدا له فهو بعده، وما كان بعد الشيء فالأول أصل له، إذ كان الثاني متعلقا به.
قيل له: قد قلنا إن معنى ضربت ضربا أوقعت ضربا. وليس في ذلك دليل على أن الفعل قبل الاسم، كما لم يكن في قولك " ضربت زيدا " ما يدل على أن زيدا بعد " ضربت " وكذلك الأسماء كلها.
ومما يدل على صحة قولنا في المصدر، اجتماع النحويين على تلقيبه مصدرا، والمصدر المفهوم في اللغة هو
الموضع الذي يصدر عنه كقولهم: " مصدر الإبل وموردها " وللموضع الذي تصدر عنه وترده، فعقلنا بذلك أن الفعل قد صدر عن المصدر، حين استوجب بذلك، أن يسمى مصدرا، كما وصفنا في المصدر وبالله التوفيق.
وأما قوله: " وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، ولما هو كائن لم ينقطع ".
اعلم أن " سيبويه " ومن نحا نحوه يقسم الفعل على ثلاثة أزمنة: ماض ومستقبل
1 / 17
وكائن في وقت النطق وهو الزمان الذي يقال عليه الآن الفاصل بين ما مضى ويمضي.
وأما الماضي فإنه يختص مثالا واحدا والحال والمستقبل الذي ليس بأمر يختصان بناء واحدا، إلا أن يدخل عليه حرف يخلص له الاستقبال وهو سوف والسين وأن الخفيفة.
إن طعن طاعن في هذا فقال: أخبرونا عن الحال الكائن، أوقع وكان، فيكون موجودا في حيز ما يقال عليه: كان، أم لم يوجد بعد فيكون في حيز ما يقال عليه: " لم يكن "؟ فإن قلتم: هو في حيز ما يقال عليه: لم يكن، فهو مستقبل، وإن كان قد وقع ووجد فهو في حيز الماضي، ولا سبيل إلى ثالث، فدلوا على صحة هذا.
فالجواب في ذلك- وبالله التوفيق- أن الماضي هو الذي أتى عليه زمانان:
أحدهما: الزمان الذي قد وجد فيه، وزمان ثان يخبر أنه قد وجد وحدث وكان، ونحو ذلك، فالزمان الذي يقال: وجد الفعل فيه وحدث غير زمان وجوده، فكل فعل صح الإخبار عن حدوثه في زمان بعد زمان حدوثه فهو فعل ماض، والفعل المستقبل هو الذي يحدّث عن وجوده، في زمان لم يكن فيه ولا قبله.
فقد تحصل لنا الماضي والمستقبل، وبقى قسم ثالث، وهو الفعل الذي يكون زمان الإخبار عن وجوده هو زمان وجوده، وهو الذي قال سيبويه: " وما هو كائن لم ينقطع ".
فإن سأل سائل فقال: أي الأفعال أقدم في الرتبة؟ فإن لأصحابه في ذلك قولين، أحدهما: إن المستقبل أول الأفعال، ثم الحال، ثم الماضي، وهذا شيء كان يذهب إليه الزجاج (١) وغيره، والحجة فيه أن الأفعال المستقبلة تقع بها العدات، ثم توجد بعد تقدم الميعاد وانتظار الموعود، فيكون حالا، ثم يأتي عليه غير زمان وجوده، فيكون ماضيا.
والقول الثاني: إن الحال هو أول الأفعال، ويكون الأقرب إليه في الترتيب المستقبل، وتاليه الماضي. والحجة في ذلك أن الميعاد بما يستقبل لا يصح إلا بما عرف وشوهد، حتى يتصوره الموعود، ويكون على ثقة مما وعد، وإلا فليس وراء العدة معنى يرغب فيه ولا يرهب منه؛ لأن القلب لا يتعلق منه برغبة ولا رهبة، ويكون المستقبل أقرب إلى الحال، من قبل أن المستقبل يجوز مصيره إلى الحال الذي هو أول، والماضي قد بعد، حتى
_________
(١) أبو إسحق إبراهيم بن السري بن سهل، المعروف ب (الزجاج)، توفي سنة ٣١١ هـ.
1 / 18
لا يجوز مساواته الحال في شيء من الأزمنة.
فإن قال قائل: فلم يخصّ الماضي ببناء واحد، لا يشركه فيه غيره، وشورك بين الحال والمستقبل فجعل اللفظ الواحد لفعلين في زمانين؟
فإن الجواب في ذلك: أن الأفعال التي في أوائلها الزوائد الأربع، لما شابهت الأسماء وضارعتها في أشياء، شبّهن من بعد بالأسماء وصرفت تصريف الاسم، فجعل اللفظ الواحد لأكثر من معنى، كما أن اللفظ الواحد في الاسم لأكثر من معنى، فمن ذلك أن " العين " عين الإنسان، وعين الركبة، وعين القبلة، وعين الميزان، وعين من عيون الماء وغير ذلك، " والرّجل " رجل الإنسان والرّجل القطعة من الجراد، وأشياء غير ذلك كثيرة من هذا النحو، فجعل ما ضارع من الأفعال الأسماء مضارعة تامة في اللفظ لزمانين.
فإن قال قائل: فهلا كان أحد الزمانين الماضي؟
فالجواب في ذلك: أن أول الأفعال يكون إما أن يكون المستقبل وإما أن يكون الحال، على القولين اللذين ذكرنا، فلا بد أن يكون أحد هذين اللفظين اللفظ الذي في أوله الزوائد الأربع، ويكون الآخر أقرب الباقين منه، وكل واحد من المستقبل والحال أقرب إلى صاحبه من الماضي إليه فاعرفه إن شاء الله.
وأما قول سيبويه: " وأما ما جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل ". فإن جملة الحروف تجيء لمعان أنا أذكرها.
فأولها: للإشراك بين اسمين أو فعلين، وذلك حروف العطف التي تدخل الثاني في إعراب لفظ الأول ومعناه، وهي الواو، والفاء، وثم، وغيرها، كقولك: " قام زيد وعمرو " و" انطلق بكر فخالد "، و" لقيت أخاك ثم أباك ".
والثاني: أن تكون لتعيين اسم أو فعل، فأما تعيين الاسم فبالألف واللام، كقولك:
الرجل والغلام، وأما تعيين الفعل، فبالسين وسوف، وتكون لنفي الاسم والفعل هو: " ما، ولا، ولن، ولم، وما أجري مجراهن، تقول: ما زيد أخاك، ولا يقوم عبد الله، ولم يقم عمرو، ولن يذهب أخوك.
وتجيء لتأكيد الاسم والفعل، فأما تأكيد الاسم، فنحو " إن زيدا أخوك ". وأما تأكيد الفعل فلتقومنّ، ولأنطلقن وتدخل لربط الاسم بالفعل، وإيصال الفعل إلى الاسم، كقولك: " مررت بزيد " وقمت إلى أخيك.
1 / 19
وتدخل لإخراج الكلام عن الواجب إلى غيره، مثل حروف الاستفهام كقولك: هل زيد قائم؟
وتدخل أيضا لعقد الجملة بالجملة كقولك: " إن يقم أقم " فإن " يقم " جملة، " وأقم " جملة، وانعقدت إحداهما
بالأخرى بدخول حرف الشرط.
وما لم نذكره فهو يجري مجراه.
هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية
أما قوله: " مجاري " فإنما أراد به الحركات، حركات أواخر الكلم، والدليل على ذلك قوله: " وهي تجري على ثمانية مجار على النصب والرفع ".
فأبدل " النصب والرفع " وما بعدهما من " ثمانية "، والبدل هو المبدل منه في هذا الموضع، وأبدل بإعادة العامل، كما قال الله تعالى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ (١) فأبدل من " الذين " وأعاد اللام.
وقوله: " وهي " كناية عن أواخر الكلم، كأنه قال: باب حركات أواخر الكلم، وأواخر الكلم تجري على ثماني حركات.
فإن قال قائل: فلم سمى الحركات " مجاري "، وهنّ يجرين، والمجاري يجرى فيهن؟
ففي ذلك جوابان:
أحدهما: أن الحركات- لما كانت أواخر الكلم قد تنتقل من بعضها إلى بعض، كما تنتقل الحركة من حرف إلى حرف- جاز أن يسمّي الحركات مجاري، من حيث تنتقل فيهن أواخر الكلم، وجعل كل واحدة منهن " مجرى "، ثم جمعها على " مجار ".
والوجه الثاني: أن يكون " مجرى " في معنى جرى، وهو مصدر، والمصادر قد يلحق أوائلها الميم، كما يقول: " مضرب " في معنى الضرب و" مفر " في معنى الفرار، فكأن واحد المجاري في هذا الوجه " مجرى " في معنى " جري ".
فإن قال قائل: فلم جمع، والمصادر لا تجمع؟ قيل له: قد تجمع المصادر إذا كانت مختلفة أو ذهب بها مذهب الخلاف، وقال الله ﷿: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (٢) أراد:
_________
(١) سورة الأعراف، آية ٧٥.
(٢) سورة الأحزاب، آية ١٠.
1 / 20
ظنونا مختلفة، ويقال: العلوم والأفهام، في أشباه لذلك كثيرة، فجعل جري كل واحدة من الحركات خلاف جري صواحبها؛ لأن جريها ليس شيئا أكثر منها، وهي مختلفات في ذواتها، فكأنه قال: هذا باب جري أواخر الكلم وهي تعني أواخر الكلم تجري على ثمانية أنحاء من الجري، ثم بين ذلك بما بعده.
فإن قال قائل: فقد يروى عن المازني (١) أنه غلّط سيبويه في قوله: " على ثمانية مجار "، وزعم أن المبنيات حركات أواخرها كحركات أوائلها؛ وإنما الجري لما يكون مرة في شيء يزول عنه، والمبني لا يزول عن بنائه، وكان ينبغي أن يقول: على أربعة مجار على الرفع والنصب والجر والجزم، ويدع ما سواهن.
فالجواب في ذلك- وبالله التوفيق- أن أواخر الكلم لا يوقف على حركاتهن، وإنما تلزمهن الحركات في الدّرج، وليس كذا صدور الكلام وأوساطها فجاز أن تصنف حركات أواخر الكلم من الجري بما لا تصنف به أوائلها وأوساطها؛ لأن حركات الأوائل والأوساط لوازم في الأحوال كلها.
ووجه ثان: أن أواخر الكلم هن مواضع التغير، فيجوز إطلاق لفظ المجاري عليهن، وإن كان بعض حركاتهن لازما في حال، ومثل ذلك تسمية " سيبويه " لأواخر الكلم عامة " حروف الإعراب ". وقد علمت أن المبنيات لا يعربن، وإنما سماهن حروف الإعراب لأن الإعراب يكون فيهن إذا أجريت الكلمة.
وقوله: " وإنما ذكرت لك ثمانية مجار، لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة، لما يحدث فيه العامل، وليس شيء منها إلا وهو يزول عنه، وبين ما بني عليه الحرف بناء لا يزول " إلى آخر الفصل.
قال أبو سعيد: اعلم أن سيبويه لقّب الحركات والسكون هذه الألقاب الثمانية- وإن كانت في الصورة أربعا- ليفرق بين المبني الذي لا يزول، وبين المعرب الذي يزول- وإنما أراد بالمخالفة بين تلقيب ما يزول وما لا يزول إبانة الفرق بينهما؛ لأن في ذلك فائدة جسيمة تقريبا وإيجازا، لأنه متى قال: هذا الاسم مرفوع، أو منصوب، أو
_________
(١) أبو عثمان بكر بن محمد بن بقية. وقيل: بكر بن محمد بن عدي بن حبيب المازني العدوي، من قبيلة بني مازن بن شيبان. توفي سنة ٢٤٧ هـ. انظر نزهة الألباء ١٨٢.
1 / 21
مخفوض، علم بهذا اللفظ أن عاملا عمل فيه يجوز زواله، ودخول عامل آخر يحدث خلاف عمله، فيكتفي " بمرفوع " عن أن تقول هذه ضمة تزول، أو تقول: عمل فيه عامل فرفعه، ففي هذا حكمة وإيجاز فاعرفه؛ فإن كثيرا من النحويين الكوفيين يخالفونه، ويسمون الضمة اللازمة رفعا، وقد عرفتك وجه الحكمة في تسمية هذا رفعا.
وقال جماعة من النحويين: غلط سيبويه في قوله " وإنما ذكرت لك ثمانية مجار؛ لأفرق بين ما يدخله ضرب من
هذه الأربعة "، قالوا: من قبل أن ما يدخله ضرب من هذه الأربعة هو حرف، لأن هذه الأربعة أراد بها الحركات والسكون، وما يدخله ضرب منها حرف، لأن الحركات لا تدخل إلا على الحروف، ثم قال: " وبين ما بني عليه الحرف بناء لا يزول ". والذي بني عليه الحرف هو الحركة، فكأنه في التمثيل قال: لا فرق بين الحرف والحركة، وهذا بعيد جدّا؛ لأن الفرق واقع بين الحروف والحركات بلا لبس ولا شبهة، ولا يشك في الفرق بينهن أحد، ولا يلتبس عليه، إنما الوجه أن يفرق بين الحركة والحركة، ألا ترى أن قائلا لو قال، لا فرق بين جسم زيد وحركة عمرو، لكان واضعا للفرق في غير موضع الحاجة إليه، وإنما يفرق بين زيد وعمرو أو بين حركة زيد وحركة عمرو.
فالجواب في ذلك: أن " سيبويه " إنما أراد: لأفرق بين إعراب ما يدخله ضرب هذه الأربعة وبين الحركة التي يبنى عليها الحرف بناء لا يزول، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها (١). وتصحيح اللفظ فإنما ذكرت لك ثمانية مجار، يعني: النصب والجر والرفع والجزم والفتح والضم والكسر والوقف، لأفرق بين حركات ما يدخله ضرب من هذه الضروب الأربعة: يعني بين حركة ما يدخله رفع أو نصب أو جرّ أو جزم، فكأنه قال: لأفرق بين المرفوع والمنصوب والمخفوض والمجزوم، وهو ما يتغير من الكلم بالعوامل التي تثبت مرة وتزول مرة أخرى، وبين ما بني عليه الحرف بناء لا يزول، يعني صيغت عليه الكلمة صياغة لا يزيلها شيء من العوامل المختلفة، نحو: فتحة " أين "، وضمة " حيث "، وكسرة " هؤلاء " ووقف " من " فاعرف ذلك، إن شاء الله.
_________
(١) سورة يوسف، آية ٨٢.
1 / 22