بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ الشَّيْخ الْفَقِيه الإِمَام الْعَلامَة أَبُو الْقَاسِم شهَاب الدّين عبد الرَّحْمَن بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْمَقْدِسِي الشَّافِعِي نفع الله الْمُسلمين بطول بَقَائِهِ، وأشركنا فِي صَالح دُعَائِهِ: الْحَمد لله مولي كل نعْمَة، ومؤتي من يَشَاء إِيمَانًا وَحِكْمَة، أَحْمَده على أَن جعلنَا من خير أمة، ووفقنا للاشتغال بكتابه وَسنة نبيه ﷺ فلنا بهما أتم حُرْمَة، وجنبنا طَريقَة الَّذِي لَا يرقبون فِي الله إِلَّا وَلَا ذمَّة، وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة دافعة لكل نقمة، مَانِعَة من كل وصمة، جالبة للفوز فِي الْآخِرَة بالنضرة وَالنعْمَة، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله نَبِي الرَّحْمَة، وَكَاشف الْغُمَّة، وسراج الْأمة، الْمنور لكل ظلمَة، الَّذِي امتن الله تَعَالَى بِهِ على هَذِه الْأمة، فَقَالَ: ﴿لقد من الله على الْمُؤمنِينَ إِذا بعث فيهم رَسُولا من أنفسهم يَتْلُوا عَلَيْهِم آيَاته ويزكيهم وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة﴾، صلى الله عَلَيْهِ وعَلى جَمِيع الْمَلَائِكَة والنبيين

1 / 43

المؤيدين بالزلفى والعصمة، وعَلى آله وَأَصْحَابه أولي الْعَزْم والهمة، الَّذين أَحْسنُوا لَهُ الْخدمَة ونقلوا إِلَيْنَا علمه، ووصفوا لنا حكمه وهديه وحلمه، وشبههم بالنجوم النيرة فِي اللَّيَالِي المدلهمة، فَرضِي الله عَن تابعيهم وَمن بعدهمْ من الْعلمَاء الْأَئِمَّة، الَّذين جعل اخْتلَافهمْ لنا رَحْمَة، وَقسم لَهُم مَعَ الْعلم طَاعَته الَّتِي هِيَ أجل قسْمَة. أما بعد: فقد صنف فِي علم الحَدِيث وَشرف أَهله كتب حَسَنَة مهمة، والعلوم الْمُتَعَلّقَة بِهِ كَثِيرَة يقصر الزَّمَان عَن تَحْصِيلهَا كَمَا يَنْبَغِي، مَعَ فَتْرَة أَهله وكسلهم حَتَّى قَالَ بعض من تقدم: " يَكْفِي من الحَدِيث شمه " فقنع الْجُمْهُور مِنْهُم بالإجازات وَالسَّمَاع من عوام الشُّيُوخ فَلهم فِي ذَلِك نهمة، وتجري بَينهم فِي ذَلِك منافسات وزحمة، وأعرضوا عَن علومه النافعة

1 / 44

الْمَأْمُور بهَا فَمَا يحركهم إِلَيْهَا همة، وَلَا لَهُم عَلَيْهَا عَزمَة، حَتَّى استولت على خواطرهم العجمة، وَلَو كَانَ أحدهم فِي الفصاحة جَارِيا مجْرى ذِي الرمة، أَو إِبْرَاهِيم بن هرمة، أَو ابْن قيس بن صرمة، وَأطلق بَعضهم على بعض اسْم الْمُحدث والحافظ فاغتر بِهَذَا الْإِطْلَاق كل غر يحْسب أَن كل سَوْدَاء تَمْرَة وكل بَيْضَاء شحمة، وَلم يدر أَن هَذَا الِاسْم قد هان على مطلقيه كَمَا هان على قوم آخَرين اسْم الْفَقِيه الَّذِي لم يكن يُطلق إِلَّا على الْمُجْتَهد النبيه الَّذِي أتقن علمه، وشكر الواصفون من أهل الْحل وَالْعقد فهمه. فَاعْلَم أَن عُلُوم الحَدِيث الْآن على ثَلَاث دَرَجَات: الدرجَة الأولى: أَعْلَاهَا وَأَشْرَفهَا وَهِي حفظ متونه وَمَعْرِفَة غريبها وَالنَّفقَة فِيهَا، فَفِي فهمها مَعَ فهم كتاب الله تَعَالَى عَن غَيرهمَا شغل شاغل، وَلَا يضيع الزَّمَان فِيمَا لَا فَائِدَة فِيهِ الْآن من السماع فِي الْبلدَانِ فَإِن الْأَحَادِيث قد دونت وبينت ورتبت وَقسمت وتعب عَلَيْهَا وأتقنها الْأَوَائِل، فَلم تبْق ضَرُورَة تَدْعُو إِلَى تَحْصِيل مَا هُوَ حَاصِل.

1 / 45

الدرجَة الثَّانِيَة: حفظ أسانيدها وَمَعْرِفَة رجالها وتمييز صحيحها من سقيمها، وَهَذَا كَانَ الأهم فِي الزَّمن الأول حَيْثُ لم تكن كتب مسطرة، وَلَا أُمُور محررة، وَقد كفى المشتغل بِالْعلمِ هَذَا التَّعَب بِمَا قد صنف وَألف من الْكتب.

1 / 46

الدرجَة الثَّالِثَة: الِاشْتِغَال بجمعه وكتابته وسماعه وتطريقه وَطلب الْعُلُوّ فِيهِ والرحلة فِي ذَلِك، فالمشتغل بِهَذَا مشتغل عَمَّا هُوَ الأهم من علومه النافعة فضلا عَن الْعَمَل بِهِ الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوب الْأَصْلِيّ من الْمُكَلّفين قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون﴾ . وَمَا أحسن مَا قَالَ جَعْفَر بن أَحْمد السراج: (إِذا كُنْتُم تكتبون الحَدِيث ... لَيْلًا وَفِي صبحكم تسمعونا) (وأفنيتم فِيهِ أعماركم ... فَأَي زمَان بِهِ تعملونا) إِلَّا أَن هَذَا لَا بَأْس بِهِ للبطالين لما فِيهِ من إبْقَاء سلسلة العنعنة الْمُتَّصِلَة بأشرف الْبشر فَهِيَ من خَصَائِص هَذِه الْأمة المرحومة.

1 / 47