Sharh Fath al-Majid by al-Ghunayman
شرح فتح المجيد للغنيمان
Genre-genre
من بر الوالدين
قال الشارح ﵀: [وقول الله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء:٢٣] أي: وقضى أن تحسنوا بالوالدين إحسانًا كما قضى بعبادته وحده لا شريك له، كما قال تعالى في الآية الأخرى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لقمان:١٤].
وقوله: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا﴾ [الإسراء:٢٣] أي: لا تسمعهما قولًا سيئًا حتى ولا التأفف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ، ﴿وَلا تَنْهَرْهُمَا﴾ [الإسراء:٢٣] أي: لا يصدر منك إليهما فعل قبيح، كما قال عطاء بن أبي رباح: لا تنفض يديك عليهما.
ولما نهاه عن الفعل القبيح والقول القبيح أمره بالفعل الحسن والقول الحسن فقال تعالى: ﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء:٢٣] أي: لينًا طيبًا بأدب وتوقير، وقوله: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء:٢٤] أي: تواضع لهما، ﴿وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا﴾ [الإسراء:٢٤] أي: في كبرهما وعند وفاتهما، ﴿كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء:٢٤].
وقد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة، منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره: (أن رسول الله ﷺ لما صعد المنبر قال: آمين آمين آمين.
فقالوا: يا رسول الله! علام أمنت؟ قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد! رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك قل: آمين فقلت: آمين.
ثم قال: رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين.
ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل: آمين، فقلت: آمين)، وروى الإمام أحمد من حديث أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ: (رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه أحدهما أو كلاهما لم يدخل الجنة).
قال العماد ابن كثير: صحيح من هذا الوجه وعن أبى بكرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) رواه البخاري ومسلم].
الرسول ﷺ قال لهم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى)، هكذا كثيرًا ما كان النبي ﷺ يبدأ أصحابه بذكر العلم، وذكر ما ينبغي أن يعلموه، فقال: (الإشراك بالله)، والإشراك بالله هو أكبر الكبائر على الإطلاق، وقد جاء أن القول على الله بغير علم أكبر من الشرك عن بعض السلف، وهو من الشرك لأنه يتضمن ذلك.
ثم قال: (وعقوق الوالدين)، فقرن بالشرك عقوق الوالدين، وهذا يوافق ما في هذه الآية: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء:٢٣]، وضد العبادة الشرك، وكذلك ضد الإحسان العقوق، ثم قال في الحديث: (وقول الزور، ألا وشهادة الزور)، يقول: (وكان متكئًا فجلس)، كان متكئًا لما بدأ بالحديث، فلما جاء إلى ذكر الزور وشهادة الزور استوى جالسًا ليكون صوته وتبليغه أبلغ، فصار يكررها: (ألا وقول الزور، ألا وقول الزور)، وقوله: (حتى قلنا: ليته سكت)، يعني: إبقاءً عليه ليته يسكت.
وهذا من المبالغة، وهذا يدلنا على أن شهادة الزور أمرها عظيم، وأن كثيرًا من الناس قد يقع فيها، فلهذا حذر وكرر صلوات الله وسلامه عليه، وشهادة الزور هي شهادة بالكذب، وكل شهادة بكذب فهي زور، كونه يشهد على شيء لا يعلمه ولم يشاهده، لا سيما إذا كان فيه قطع لحق الآخرين، وإعطاء الآخرين حقوق غيرهم، فإن هذا من أظلم الظلم فيما يتعلق بظلم الناس للناس، فهذه يترتب عليها حقوق الناس، وقد جاء في صحيح مسلم: (من اقتطع حق امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان)، وفي رواية: (فله النار، فقالوا: وإن كان شيئا قليلا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبًا من أراك) يعني: وإن كان سواكًا.
وفي خطبته ﷺ في حجة الوداع لما سألهم وقال: (أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟) يسألهم وفي كلها يقول: (أليس الشهر الحرام؟ أليس البلد الحرام؟ أليس يوم الحج الأكبر؟)، ثم قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟) فجعل الأموال والأعراض والدماء كلها محرمة لا يجوز تناولها بشيء، وصار يكرر ذلك ﷺ ويقول: (ألا هل بلغت؟ اللهم! اشهد).
فالمقصود أن حقوق الناس ليست بالسهلة، ولهذا قالوا: عند المحاسبة والجزاء حقوق الناس مبنية على المقاصة وعلى الاستقصاء لا يترك منها شيء، كما جاء عن عائشة أن الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفره الله، وديوان لا يترك الله منه شيئًا، وديوان لا يعبأ الله به شيئًا.
فأما ما لا يغفره الله فالشرك ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:٤٨]، فأي مشرك فإن الله لا يغفر له، كما أخبر الله جل وعلا عن ذلك.
وديوان لا يترك الله منه شيئًا، وهو حقوق الناس بعضهم مع بعض، لا يترك منها شيء، فلابد أن تقتص، ولابد أن تستقصى، فكل حق لإنسان لابد أن يؤدى يوم القيامة، وتأديته بالحسنات والسيئات، يؤخذ من حسنات الظالم ويعطى المظلوم حتى يستقصي، فإن انتهت حسناته أخذ من سيئات المظلوم ووضعت على الظالم حتى يقضى حقه، لا يوجد خلاص أبدًا، ثم يشدد عليه العذاب، نسأل الله العافية.
أما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا فهو ما كان بين العبد وبين ربه، فهذا سبيله المغفرة، فإذا شاء ربنا جل وعلا غفر له.
5 / 8