Sharah Diwan Mutanabbi
شرح ديوان المتنبي
Genre-genre
إن الكرام بأسخاهم يدا ختموا
ولا تبال بشعر بعد شاعره
قد أفسد القول حتى أحمد الصمم
ولما تأملت شعره بعين المعدلة البعيدة عن الهوى، وعين المعرفة التي ما ضل صاحبها وما غوى، وجدته أقساما خمسة: خمس في الغاية التي انفرد بها دون غيره، وخمس من جيد الشعر الذي يساويه فيه غيره، وخمس من متوسط الشعر، وخمس دون ذلك، وخمس في الغاية المتقهقرة التي لا يعبأ بها، وعدمها خير من وجودها، ولو لم يقلها أبو الطيب لوقاه الله شرها؛ فإنها هي التي ألبسته لباس الملام، وجعلت عرضه غرضا لسهام الأقوام.» ا.ه. كلام ابن الأثير.
وقد آن لنا أن نقول: إن هذا الذي يعاب على أبي الطيب ويظن أنه يتخونه ويشينه: هو على الحقيقة سر من أسرار شاعريته؛ لأن مرجعه التوليد الذي لا يؤتاه إلا الشاعر المطلق، فالكلام إنما هو من الكلام وإنما يستحق الشاعر هذا اللقب بالتوليد، وبطريقته في التوليد تقوم طريقته في الشعر؛ فمن ثم يختلف الشعراء، ويمتاز واحد من واحد، وتبين طريقة من طريقة وإن تواردوا جميعا على معنى واحد يأخذه الآخر منهم عن الأول.
ولقد يأتي مائة شاعر بالمعنى الذي لا يختلف في الطبيعة ولا في السياق ولا في الفهم، فيديرونه في مائة بيت تكون في مائة ديوان، ومع ذلك ترى أحوالهم فيه متباينة، وصناعتهم في أخذه مختلفة، وتراهم قد تناولوه بوجوه كثيرة تحقق فيه عمل أمزجتهم، وتلقي عليه اختلاف أزمانهم، وتجري به في طرق حوادثهم، كأنه مع كل منهم قد ولد ونشأ
2
فهو مع هذا قوي، ومع الآخر جبار، ومع الثالث ضعيف، ومع رابع متهالك، وتارة بدين، وأخرى هزيل، وثالثة بينهما، وهكذا، ولولا ذلك لم يكن الكلام إلا تكرارا، وبطل فيه عمل العقل، وأصبح رثا باليا، وذهب مع الذاهبين الأولين، ولم يبق فيه لشاعر إلا إقامة الوزن، ولو كان هذا لنسخ لقب الشاعر من الأرض، ولم تعد للبيان صناعة، ولا بقيت في القرائح مادة إلهية من الإلهام.
وشأن المتنبي كالشأن في نوابغ الدنيا: فالشاعر النابغة لا يمهر بإرادته، ولا ينبغ بأن يخلق في نفسه مادة ليست فيها، وإنما هو يولد مهيئا بقوى لا تكون إلا فيه وفي أمثاله، وهو زائد بها على غيره ممن لم يرزق النبوغ - كما يزيد الجوهر على الحجر أو الفولاذ على الحديد، أو الذهب على النحاس - ثم تتفاوت هذه القوى في النوابغ ؛ فتتنوع وتتباين، وتعمل فيها أحوالهم وأزمانهم وحوادثهم، ومن ثم يجتمع لكل منهم شخصية، ويستقل منها بطريقة ومذهب؛ فإذا تناول معنى من المعاني تناوله على طريقته: فإما حذف منه، وإما زاد فيه، وإما غيره وقلبه، وإما صب على حذوه معنى جديدا يلم به أو يشبهه، أو لا يكون فيه إلا أنه جاء على طريقه حسب. فكثيرا ما يقرأ النابغة كلاما لغيره، أو يتأمل خاطرا، أو يشهد أمرا؛ فإذا كل ذلك قد أوحي إليه وانعكس على مرآة ذهنه بمعان مبتكرة طريفة لا تشبه ما كان بسبيله وجها من الشبه - لا قريبا ولا بعيدا - وليس فيها إلا أنها جاءت من ذلك الطريق، وهو بعد لم يتعمل لها ولم يتكلف ولم يصنع شيئا، وإنما هو تلقى من ذهنه وتلقى ذهنه من قوة لا يدري ما هي ولا أين هي؟
وكما يختار النبي يختار النابغة - وليس كل الناس أنبياء، ولا كلهم نوابغ - ولا يصنع النبي أكثر من أن يتلقى عن الوحي، وكذلك يتلقى النابغة عن البصيرة، وهي تكون فيه هو وحده بمقام الملك من الملائكة أو الشيطان من الشياطين، على حين تكون في سواه بمقام الإنسان من الناس، فالرجل الذكي أشبه بإنسانين: أحدهما هو، والآخر بصيرته، وهو بذلك أقوى من غيره، ولكن النابغة - وبصيرته أشبه بإنسان وملك، أو إنسان وشيطان - فهو دائما أقوى من القوة، وهو دائما متصل بشيء فوق الإنسانية.
Halaman tidak diketahui