ـ[شرح علل الترمذي]ـ
المؤلف: زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: ٧٩٥هـ)
المحقق: الدكتور همام عبد الرحيم سعيد
الناشر: مكتبة المنار - الزرقاء - الأردن
الطبعة: الأولى، ١٤٠٧هـ - ١٩٨٧م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ومعه مقدمة المحقق د همام سعيد]
Halaman tidak diketahui
القسم الأول: مقدمة شرح علل الترمذي للدكتور همام عبد الرحيم سعيد
الباب الأول شرح علل الترمذي لابن رجب الحنبلي
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: في العلة وميدانها وأشهر علماء العلل.
الفصل الثاني: في التعريف بأصل الكتاب وصاحبه، ومنهج ابن رجب فيه ومصادره في العلل.
الفصل الثالث: دراسة حول علم العلل، من خلال كتاب ابن رجب.
الفصل الرابع: دراسة في مصطلح الحديث، من خلال كتاب شرح علل الترمذي.
1 / 15
الفصل الأول مقدمة في العلة وميدانها وأشهر علماء العلل
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: العلة في اللغة والاصطلاح، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: العلة في اللغة.
المطلب الثاني: العلة في الاصطلاح.
المبحث الثاني: ميدان علم العلل، وغايته وأشهر علمائه ومصنفاته:
تمهيد،
المطلب الأول: ميدان علم العلل وغايته.
المطلب الثاني: أهميته واتساعه.
المطلب الثالث: أشهر العلماء المشتغلين بالعلل.
1 / 16
والثالث: العلة المرض، وصاحبها معتل، قال ابن الأعرابي: "عل المريض يعل فهو عليل".
وقال في القاموس: "اعتله وأعله الله - تعالى - فهو معل وعليل، ولا تقل: معلول والمتكلمون يقولونها، ولست منه على ثلج". وقال في اللسان: إنما هو أعله الله فهو معل، إلا أن يكون على ما ذهب إليه سيبويه من قولهم مجنون ومسلول، من أنه جاء على جننته وسللته.
والمحدثون يطلقون على الحديث الذي في عله "معلول"، (وكذا وقع في كلام البخاري والترمذي الدارقطني والحاكم وغيرهم) . وقد أنكر بعض العلماء هذا، كما سبق في اعتراضهم على المتكلمين، (وقال إن المعلول في اللغة اسم مفعول من عله إذا سقاه السقية الثانية، وتعقبهم آخرون فقالوا: قد ذكر في بعض كتب اللغة: عل الشيء إذا أصابته علة فيكون لفظ معلول هنا مأخوذا منه.
قال ابن القوطية: (عل الإنسان: مرض، والشيء أصابته العلة فيكون استعماله بالمعنى الذي أرادوه غير منكر، بل قال بعضهم: استعمال هذا اللفظ أولى لوقوعه في عبارات أهل الفن، مع ثبوته لغة، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ قال ابن هشام في شرح بانت سعاد:
(تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنها منهل بالراح معلول»
والراجح في هذه المسألة أن "معلول" موفق للغة ومنسجم مع قواعدها إذا
1 / 20
كان مشتقا من عله بمعنى سقاه الشربة الثانية، وهو معنى "معلول" في الشاهد الذي ذكره ابن القوطية وليس كما أراده شاهدا للعلة بمعنى المرض، لأن "معلول" في البيت مرتبط بمنهل، والمنهل هو المورود في المرة الأولى، والمعلول هو المورود في المرة الثانية.
ولما كان من معاني "عل" في أصل اللغة الشربة الثانية، كما ذكر ابن فارس في معنى هذه المادة، فيكون هذا الاستعمال لا غبار عليه، لا في اللغة ولا في الاصطلاح، وتكون العلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي أن العلة ناشئة عن إعادة النظر في الحديث مرة بعد مرة.
وكما يقال "معلول" بهذا المعنى فإنه يقال "معل" لما دخل على الحديث من العلة بمعنى المرض. وأما استعمال "معلل" فلا تمنعه القواعد إذا كان مشتقا من "علله" بمعنى ألهاه به وشغله، ويكون معنى "الحديث المعلل": هو الحديث الذي عاقته العلة وشغلته فلم يعد صالحا للعمل به.
المطلب الثاني العلة في اصطلاح المحدثين
تقاربت عبارات أهل المصطلح في تعريفهم العلة في الحديث. وأول كتاب ذكر تعريفا للعلة هو "معرفة علوم الحديث" للحاكم، وقد قال فيه: "وهو علم برأسه غير الصحيح والسقيم والجرح والتعديل". ويقول الحاكم أيضا: "وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل".
وهذا من الحاكم محاولة أولى لتحديد مفهوم عام للعلة، ولا يمكن أن نسميه حدا بما يحمله الحد من الضوابط. كما يلاحظ في كلام الحاكم قصر العلة على ما لا مدخل للجرح والتعديل فيه، وهو مخالف لمنهج كتب العلل التي احتوت على علل سببها جرح الراوي، وسيأتي الكلام على هذا.
1 / 21
وجاءت عبارة أبي عمرو بن الصلاح أكثر تحديدا من عبارة الحاكم فقال: "المعلول هو الذي أطلع فيه على عله تقدح في صحته مع أن ظاهره السلامة منها ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر"، وفي هذا التعريف دور لأنه أدخل "العلة" في تعريف المعلول إلى جانب أنه ذكر علة الإسناد، ولم يشمل هذا التعريف علة المتن، التي لا تقل أهمية عن علة الإسناد.
وأما الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي (ت ٨٠٤هـ) فقد عرف العلة بقوله: "العلة عبارة عن أسباب خفية غامضة طرأت على الحديث فأثرت فيه، أي قدحت في صحته". ويلاحظ على هذا التعريف تكرار الألفاظ فيه، وقوله "طرأت" يشعر بأن الحديث كان في أصله صحيحا، وليس ذلك بلازم، إذ قد تدخل العلة على الحديث الصحيح، وقد يكون الحديث من أصله معلولا، كأن يظهر بعد البحث أن الحديث لا أصل له، وإنما أدخل على الثقة فرواه.
وقد نقل برهان الدين البقاعي (ت ٨٥٥هـ) في نكتة على ألفية العراقي، كلاما آخر للعراقي، جاء فيه: "والمعلل خبر ظاهره السلامة اطلع فيه بعد التفتيش على قادح " وأما الحافظ ابن حجر (ت ٨٥٢هـ) فقد ذكر في تعريف المعلل أثناء كلامه على أنواع الضعيف فقال "ثم الوهم إن اطلع عليه بالقرائن وجمع الطرق فهو المعلل"، ولا يصلح هذا لأن يكون حدا للعلة، إذ هو بيان لطرق الكشف عن العلة.
وما نختاره من هذه التعاريف هو ما نقله البقاعي عن العراقي: "والمعلل خبر ظاهره السلامة اطلع فيه بعد التفتيش على قادح". وهو تعريف جامع مانع.
1 / 22
وفيما يلي بيان لعناصر هذا التعريف يوضح أسباب اختياره:
(أ) في قوله "خبر" ذكر لعلة السند وعلة المتن لأن الخبر يشمل السند والمتن.
(ب) وفي قوله "ظاهرة السلامة" بيان أن العلة تكون في الحديث الذي رجاله ثقات، الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر.
(ج) قوله "اطلع فيه بعد التفتيش" دليل على خفاء القادح، وعلى إمعان النظر ولا يكون ذلك إلا من الناقد الفهم العارف.
(د) وقوله "على قادح" تعميم لأسباب العلل لتشمل العلل التي مدارها الحرج، وتلك الناشئة عن أوهام الثقات وما يلتبس عليهم ضبطه من الأخبار. وبذلك يكون هذا التعريف مطابقا لواقع كتب العلل التي اشتملت على أحاديث كثيرة أعلت بجرح راو من رواتها.
1 / 23
ينتهي بكلمة أو سطر أو صفحة، أو مجموعة من الأقوال، في الرجل موضع الجرح أو التعديل، وأما هذا الذي معنا فإنه يواكب الثقة في حلة وترحاله، وأحاديثه عن كل شيخ من شيوخه، ومتى ضبط، ومتى نسي، وكيف تحمل، وكيف أدى. ولذلك نجد علي بن المديني يخرج علل ابن عيينة في ثلاثة عشر جزءا، وسفيان بن عيينة ثقة ثبت، ولكن هذا لا يعني سلامة أحاديثه كلها فهو بشر يخطئ ويصيب، وإن كان خطؤه نادرا، ولكن كم يكون حجم هذا النادر من بين ألوف الأحاديث التي يرويها؟
وهذا النوع من النقد أفرده الإمام مسلم بن الحجاج (ت ٢٦١هـ) في كتاب سماه "التمييز"، وقال في مقدمته: " فإنك يرحمك الله ذكرت أن قبلك قوما ينكرون قول القائل من أهل العلم، إذا قال: هذا حديث خطأ، وهذا حديث صحيح، وفلان يخطئ في روايته حديث كذا، والصواب ما روى فلان بخلافه، وذكرت انهم استعظموا ذلك من قول من قاله، ونسبوه إلى اغتياب الصالحين من السلف الماضيين، حتى قالوا: إن من ادعى تمييز خطأ رواياتهم من صوابها متخرص بما لا علم له به، ومدح علم غيب لا يوصل إليه"
ويمضي الإمام مسلم فيقول:
"وبعد، فإن الناس متباينون في حفظهم لما يحفظون، وفي نقلهم لما ينقلون، فمنهم الحافظ المتقن الحفظ، المتوقي لما يلزمه توقيه فيه، ومنهم المتساهل المشيب حفظه بتوهم يتوهمه أو تلقين يلقنه من غيره، ومنهم من همته حفظ متون الأحاديث دون أسانيدها فيتهاون في حفظ الآثار يتخرصها من بعد فيحيلها بالتوهم على قوم غير الذين أدى إليه عنهم".
وأكثر من هذا فإن الإمام مسلما لا يبرئ أحدا من هذا وإن كان من أحفظ الناس وأشدهم توقيا: "ومع ما ذكرت لك من منازلهم في الحفظ ومراتبهم
1 / 26
فيه فليس من ناقل خبر وحامل أثر من السلف الماضين إلى زماننا - وإن كان من أحفظ الناس وأشدهم توقيا واتقانا لما يحفظ وينقل - إلا والغلط والسهو ممكن في حفظه ونقله".
وهكذا فإن الإمام مسلما يكشف لنا بجلاء ووضوح عن مجال هذا النوع من النقد فمجاله أحاديث الثقات وهدفه تنقيتها من الأوهام والأخطاء، وعلى لوحات كتابه نجد تطبيقات كثيرة لهذا النقد، وسنختار مثالا منها يدور حول وهم رجل من أكابر المحدثين الثقات الأثبات وهو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت ١٢٤هـ) قال الإمام مسلم: "حدثنا الحسن الحلواني (ثنا) يعقوب بن إبراهيم (ثنا) أبي عن صالح عن ابن شهاب: أن أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة أخبره أنه بلغه أن النبي ﷺ صلى ركعتين ثم سلم، فقال ذو الشمالين بن عبد عمرو يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال رسول الله ﷺ "لم تقصر الصلاة، ولم أنس" قال ذو الشمالين: فقد كان ذلك يا رسول الله، فأقبل رسول الله ﷺ على الناس، وقال: أصدق ذو اليدين قالوا: نعم، فقام رسول الله ﷺ فأتم ما بقي من الصلاة، ولم يسجد السجدتين اللتين يسجدان إذا شك الرجل في صلاته.
قال ابن شهاب: "وأخبرني ابن المسيب عن أبي هريرة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله. سمعت مسلما يقول: وخبر ابن شهاب هذا في قصة ذي اليدين. وهم غير محفوظ، لظاهر الأخبار الصحاح عن النبي ﷺ في هذا".
حدثنا أبو كريب (ثنا) أبو أسامة (ثنا) عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة (ثنا) إسماعيل بن إبراهيم عن خالد الحذاء عن
1 / 27
أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمر، وأن كل هؤلاء ذكروا في حديثهم أن رسول الله ﷺ حين سها في صلاته، يوم ذي اليدين، سجد سجدتين بعد إذ أتم الصلاة.
المطلب الثاني أهميته واتساعه
بالرغم من أن علم العلل قسم من أقسام علم الحديث دراية، إلا أن العلماء ركزوا عليه وأعطوه الأهمية القصوى حتى قال الحاكم: "معرفة علل الحديث. وهو علم برأسه غير الصحيح والسقيم والجرح والتعديل".
وحقا إن هذا العلم رأس علوم الحديث وأوسعها وأخفاها وأدقها وأهمها ولولاه لاختلط الصحيح بالسقيم لأن الأصل في أحاديث الثقات الاحتجاج بها والالتزام بقبولها وما يدخل عن طريق الثقات والحفاظ لا يدخل عن طريق الضعفاء والمجروحين، لأنه كما يقول الحاكم أبو عبد الله: "فإن حديث المجروحين ساقط واه وعلة الحديث تكثر في حديث الثقات أن يحدثوا بحديث له علة، فيخفى عليهم علمه فيصير الحديث معلولا".
وأما اتساع هذا العلم فسنرى - بعون الله ومشيئته - في مباحث أنواع العلل أن معظم علوم الحديث يدخل في العلل، فقد يعلل الحديث بالانقطاع أو الإرسال أو الأعضال أو الإدراج أو القلب، أو الاضطراب، ولكن الذي يميز علم العلل عن هذه الفروع، هو ما تتضمنه العلة من الخفاء إذ يقع الإرسال أو الانقطاع أو الإدراج في حديث الثقات ويصعب تمييزه والحكم عليه، وينطلي على أكثر المحدثين، حتى يتنبه جهابذتهم ونقادهم إلى هذا القادح الذي يتصف بالخفاء.
وخلاصة القول أن القادح منه الخفي ومنه الجلي، ومنه ما كان في حديث الثقات، ومنه ما كان في حديث المجروحين والضعفاء. فما كان خفيا وفي حديث
1 / 28
الثقات فهو داخل في علم العلل، ولا أنسى أن أقول: إن معيار خفائه سؤال الحفاظ عنه، ووروده في كتب العلل.
وأما ما نجده في كتب العلل من أحاديث أعلت بالجرح كأن يقال في أحد رواتها: متروك أو منكر الحديث، أو ضعيف، فيمكن حمل هذه القوادح على علم العلل وإلحاقها به إذا وردت في أحاديث الثقات، كرواية الزهري عن سليمان بن أرقم، ورواية مالك عن عبد الكريم أبي أمية، ورواية الشافعي عن إبراهيم بن أبي يحيى، فرواية هؤلاء الأئمة الجهابذة عن هؤلاء الضعفاء توقع كثيرين في العلة اعتمادا على تثبت هؤلاء الأئمة، ومكانة الزهري ومالك والشافعي تخفي أمر هؤلاء المتروكين والضعفاء.
وقد يلتبس أمر راو ما على أحد الحفاظ النقاد، فيروي عنه، ويكون الحديث معلولا بجهالة أمر هذا الراوي أو بنكارته، ولا تدرك هذه الجهالة والنكارة إلا بمعرفة كبار النقاد.
وهذا تخريج لوجود مثل هذه القوادح التي ذكرت في كتب العلل.
وقد ذكر أكثر المصنفين في علوم الحديث أن العلة قد تطلق على أنواع من الجرح، وذلك بعدما ذكروا أن غالب العلل في أحاديث الثقات، ولذلك نجد ابن الصلاح يقول: "وقد يعلون بأنواع الجرح من الكذب والغفلة وسوء الحفظ وفسق الراوي، وذلك موجود في كتب علل الحديث"، وهذا ما ذكره ابن كثير والعراقي، ولكنهم لم يحاولوا تخريج وجود هذه الأنواع في كتب العلل. أما السخاوي فقد تنبه لهذا فقال: ولكن ذلك منهم - أي أصحاب كتب العلل الذي يعلون بالجرح - بالنسبة للذي قبله قليل، على أنه يحتمل أيضا أن التعليل بذلك من الخفي لخفاء وجود طريق آخر ليخبر بها ما في هذا من ضعف، فكأن المعلل أشار إلى تفرده.
1 / 29
المطلب الثالث أشهر علماء هذا الفن
لقد قيض الله تعالى لميدان علم الحديث والعلل أعلاما عبدوا مساربه. فكان شعبة بن الحجاج أبو بسطام (المتوفى سنة ١٦٠هـ) من رواده الأوائل وشعبة هذا قال عنه الإمام الشافعي ﵀: "لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق. وقال أبو حاتم الرازي: إذا رأيت شعبة يحدث عن رجل فاعلم بأنه ثقة. وقال يحيى بن سعيد: كان شعبة أعلم الناس بالحديث".
قال ابن رجب في معرض ترجمته لشعبة بن الحجاج: "وهو أول من وسع الكلام في الجرح والتعديل واتصال الأسانيد وانقطاعها، ونقب عن دقائق علم العلل، وأئمة هذا الشأن بعده تبع له في هذا العلم".
وقال السمعاني صاحب كتاب اٍلأنساب: "هو أول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين". وهذه العبارة تكفي لأن نعرف من هو شعبة. وفي كتب العلل والرجال يتردد اسمه في كل صفحة، وكافة النقاد بعده يتسابقون في نقل عباراته والبحث عن نظراته في الرجال والعلل. وخلاصة القول في شأن هذا الرجل أن الحديث أصبح صناعة وفنا على يديه.
ومن فرسان هذا الميدان وأفذاذه يحيى بن سعيد القطان (المتوفى سنة ١٩٨هـ) خليفة شعبة والقائم بعده مقامه، وعنه تلقاه أئمة هذا الشأن
1 / 30
كأحمد وعلي ويحيى بن معين، وقد كان شعبة يحكمه على نفسه في هذا العلم، هذا قول ابن رجب فيه ﵀.
قال أحمد: لم يكن في زمان يحيى القطان مثله كان تعلم من شعبة وقال ابن معين: قال لي عبد الرحمن بن مهدي: لا ترى بعينيك مثل يحيى بن سعيد القطان. وقد ترجم له ابن رجب ترجمة تليق بمقامه، وترفع شأنه، وقد ذكر ابن رجب أن ليحيى القطان كتابا في العلل فيكون بذلك أول من صنف في هذا العلم. وقد وصفه ابن الأثير بوصف جامع أوقفني على عظمة هذا الرجل، وشدني إلى مزيد من التعرف عليه فقال: "وهو الذي مهد لأهل العراق رسم الحديث، وأمعن في البحث عن الرجال". وقد صحب يحيى القطان شعبة مدة عشرين عاما فاكتسب منه مهارة فائقة ظهرت آثارها فيما نقل عنه، وفي التلاميذ الذين تلقوا عنه كيحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وقل أن يجد الباحث قضية في العلل والرجال خلت من رأي ليحيى بن سعيد، وقد بلغ من علو كعبه في النقد أن قبله شيخه شعبة حكما بينه وبين مخالفيه، قال عبد الرحمن بن مهدي:
اختلفوا يوما عند شعبة، فقالوا اجعل بيننا وبينك حكما. فقال: قد رضيت بالأحول، يعني يحيى بن سعيد القطان، فما برحنا حتى جاء يحيى فتحاكموا إليه، فقضى على شعبة، فقال له شعبة: ومن يطيق مثل نقدك يا أحول؟ " ويعلق ابن أبي حاتم على هذه القصة، فيقول: "هذه غاية المنزلة إذا اختاره شعبة من بين أهل العلم، ثم بلغ من دالته بنفسه وصلابته في دينه أن قضى على شعبة".
1 / 31
ومن رجال هذا الفن الحاذقين فيه عبد الرحمن بن مهدي (المتوفى سنة ١٩٨هـ)، وهو الذي قال عنه علي بن المديني: "لو أخذت فأحلفت بين الركن والمقام لحلفت بالله أنني لم أر أحدا قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي وقال صالح بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: أيما أثبت عندك عبد الرحمن بن مهدي أو وكيع؟ قال: عبد الرحمن أقل سقطا من وكيع في سفيان، قد خالفه وكيع في ستين حديثا من حديث سفيان، وكان عبد الرحمن يجيء بها على ألفاظها، وكان لعبد الرحمن توق حسن".
وأما يحيى بن معين بن عون المري أبو زكريا (المتوفى سنة ٢٣٣هـ) فإليه انتهى علم العلل حتى قال عنه الإمام أحمد: "ههنا رجل خلقه الله لهذا الشان". ومن آثاره التي وصلتنا "التاريخ والعلل" وفيه علم غزير ومعرفة واسعة في علم الرجال والعلل، ولم يكتب هو بيده شيئا وإنما جمع عدد من تلاميذه أخباره ومسائله في العلل كعثمان الدارمي، وعباس الدوري، وابن الجنيد، ومضر بن محمد، وابن محرز، وخالد بن الهيثم. وقل أن نجد رجلا لم يتكلم ابن معين فيه جرحا أو تعديلا، ولقد عرف أهل زمانه مكانته به بالمدينة والمنادي ينادي: هذا الذي ذب الكذب عن أحاديث رسول الله ﷺ.
ومن كبار النقاد ورجال العلل أبو الحسن علي بن جعفر المديني (المتوفى سنة ٢٣٤هـ) شيخ البخاري، قال عنه أو حاتم الرازي: "كان علي بن المديني علما في الناس في معرفة الحديث والعلل". وقد ترجم له ابن رجب في شرح
1 / 32
علل الترمذي وذكر له قائمة من الكتب زادت على الثلاثين كتابا. معظمها في العلل - مثل:
- علل المسند في ثلاثين جزءا.
- العلل التي كتبها عنه إسماعيل القاضي، أربعة عشر جزءا.
- علل حديث ابن عيينة ثلاثة عشر جزءا.
- الوهم والخطأ في خمسة أجزاء.
- من حدث ثم رجع عنه جزء.
- اختلاف الحديث، خمسة أجزاء.
- العلل المتفرقة ثلاثون جزءا.
ومن هؤلاء الأفذاذ الإمام أحمد بن حنبل (المتوفى سنة ٢٤١هـ) وباعه في الحديث عامة، وفي العلل خاصة طويل.
ولقد كتب عنه تلاميذه مئات الأجزاء في العلل وفي سائر فنون الحديث. ومن هذه الأجزاء ما كتبه ابنه عبد الله عنه وقد بلغ كتابه" العلل ومعرفة الرجال" اثني عشر جزءا مخطوطا. وقد ترجم له ابن رجب ﵀ ترجمة تليق بمقامه.
وأما الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (المتوفى سنة ٢٥٦هـ) فقد وصفه تلميذه مسلم بن الحجاج بقوله: "أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله".
وله كتاب في العلل ذكره ابن حجر في المعجم المفهرس له، وابن خير في فهرسته.
1 / 33
الأول: "العلل الصغير"، وهو ملحق بكتابه الجامع.
والثاني: العلل الكبير ومعظمه منتزع من كتاب الجامع.
وممن صنف في العلل أبو زرعة عبد الرحمن بن عمر الدمشقي (المتوفى سنة ٢٨٠هـ) وله في ذلك كتاب التاريخ وعلل الرجال".
وللحافظ أبي بكر أحمد عمرو بن عبد الخالق المعروف بالبزار، (المتوفى سنة ٢٩٢هـ) كتاب مهم هو "المسند الكبير المعلل".
وقد هذبه ابن حجر، وتوجد منه نسخة في مكتبة مراد ملا.
وممن صنف في العلل أبو يحيى زكريا بن يحيى الساجي، (المتوفى سنة ٣٠٧هـ) وقد ترجم له الذهبي في تذكرته، وقال: له كتاب في علل الحديث يدل على تبحره، وذكره ابن خير في فهرسته.
وصنف الحافظ البارع أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد الماسرجسي النيسابوري (المتوفى سنة ٣٦٥هـ) كتابا في العلل. وهو مسند كبير مهذب معلل في ألف جزء وثلاثمائة جزء - وقد نقل الذهبي عن الحاكم قوله: هو سفينة عصره في كثرة الكتابة، وقال: وعلى التخمين يكون مسنده في خطوط الوراقين في أكثر من ثلاثة آلاف جزء، فعندي أنه لم يصنف في الإسلام مسند أكبر منه، وكان مسند أبي بكر الصديق بخطه في بضعة عشر جزءا بعلله وشواهده، فكتبه النساخ في نيف وستين جزءا.
وقد تلقي عنه هذا الفن محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق النيسابوري
1 / 35
وللحاكم أبي عبد الله محمد بن البيع كتاب في العلل، وقد أفرد للعلل مبحثا في كتابه "معرفة علوم الحديث".
وللحسن بن محمد البغدادي المعروف بالخلال (المتوفى سنة ٤٣٩هـ) كتاب في العلل.
ولابن الجوزي عبد الرحمن بن علي بن محمد (المتوفى سنة ٥٩٧هـ)، كتاب العلل المتناهية".
وأما عبد الرحمن بن أحمد بن رجب (المتوفى سنة ٧٩٥هـ) فقد شرح كتاب الترمذي الجامع ثم شرح كتاب العلل الصغير الملحق بالجامع وأضاف عليه إضافات مهمة في علم العلل، وهذا الجهد كله منصب على هذا الكتاب لخدمته وإظهاره إن شاء الله.
وقد صنف أحمد بن علي بن حجر (المتوفى سنة ٨٥٢هـ) كتابا سماه الزهر المطلول في الخبر المعلول".
وكثير من هذه الكتب طوته يد الحدثان وبقي بعضهما رهين دور المخطوطات، ولم يطبع منها سوى مجلد من علل الإمام أحمد، وعلل ابن أبي حاتم، وجزء من علل ابن المديني
1 / 37
الفصل الثاني في التعريف بأصل كتاب شرح علل الترمذي ومنهج ابن رجب فيه وأشهر مصادره في العلل
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: في التعريف بأصل الكتاب وصاحبه.
المبحث الثاني: نظرة في مناهج كتب العلل المتقدمة.
المبحث الثالث: منهج ابن رجب في شرح علل الترمذي.
المبحث الرابع: دراسة لأشهر مصادر ابن رجب في العلل.
1 / 39
المبحث الأول التعريف بأصل الكتاب وصاحبه
تمهيد
لما كان منطلق هذه الدراسة كتاب "شرح علل الترمذي" فإنه منطق البحث يلزمنا أن نعرف بأصل الكتاب وصاحبه. وسيكون هذا - إن شاء الله - على وجه الإجمال والاختصار، وذلك لأن الأصل الذي هو "العلل الصغير" مبثوث في شرح ابن رجب، وقد تكلم عليه فأجاد وأفاد. وأما صاحبه فهو الإمام الترمذي وهو غني عن التعريف والبيان.
وقد جعلت هذا المبحث في مطلبين اثنين:
المطلب الأول التعريف بكتاب العلل الصغير
صنف الإمام الترمذي كتابه المسمى بـ "الجامع" على الأبواب المعللة، ثم ختم كتابه بكتاب صغير في العلل، بين فيه مقاصده، ومصادره ورجاله ومصطلحاته.
ومع أن هذا الكتاب مسبوق بجهود متفرقة في علم الدراية، كما هو مسبوق بمقدمة صحيح مسلم، التي حددت مقاصد مسلم ورجاله، وبعض آرائه، رغم كل هذا فإن كتاب العلل الصغير للترمذي جاء أتم وأكمل، وجاز لنا أن نعتبره أول مصنف في علوم الحديث، وموضوعاته أشمل وأدق من موضوعات "المحدث الفاصل" للرامهرمزي الذي قيل فيه: أنه أول مصنف في علوم الحديث.
1 / 41
ولما كنت سأكل الكلام عن هذا الكتاب لشارحه فسأقتصر هنا على ذكر مقاصد الكتاب. وهي كما يلي:
١ - بين الترمذي أن الأحاديث المذكورة في كتابه معمول بها كلها ما عدا اثنين ذكرهما.
٢ - حدد الترمذي أسانيده إلى الفقهاء الذين ذكر مذاهبهم في كتابه.
٣ - بين الترمذي فيه مقصده العام من كتابه "الجامع"، وأنه كتاب معلل.
٤ - ساق فيه الترمذي أدلة كثيرة على جواز الكلام في الرجال والعلل، بل على وجوبه.
٥ - قسم الرواة فيه إلى أربعة أقسام:
(أ) قوم من الثقات الحفاظ الذين يندر الخطأ في حديثهم.
(ب) قوم من الثقات الذين يكثر الغلط والخطأ في حديثهم.
(ج) قوم من جلة أهل العلم غلب عليهم الخطأ والوهم فلا يحتج بحديثهم إذا انفردوا.
(د) قوم من المهتمين وأصحاب الغفلة، وهؤلاء لا يحتج بهم.
وفي الكلام عن الرواة ركز الترمذي على تفاوت الحفاظ في الضبط، وأثر ذلك على رواياتهم. وهذا لب علم العلل كما سنرى فيما بعد - إن شاء الله -.
٦ - تكلم الترمذي على الرواية بالمعنى واللفظ، ووضع شروطا لجواز الرواية بالمعنى.
٧ - فصل الكلام في أنواع التحمل.
٨ - تكلم عن الاختلاف في توثيق الرواة وتضعيفهم. وفي هذه إشارة منه إلى أن صاحب الكتاب قد يأخذ عن رجل ضعيف عند غيره، ولكنه ثقة عنده.
1 / 42