Sharh Bab Tawhid Al-Uloohiyah min Fatawa Ibn Taymiyyah

Nasser Al-Aql d. Unknown

Sharh Bab Tawhid Al-Uloohiyah min Fatawa Ibn Taymiyyah

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية

Genre-genre

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [١] لقد ميز الله ﷿ هذه الأمة الخاتمة بميزات وخصائص عظيمة، فقد جعلها خير الأمم، وأكرمها بخير الرسل، وحباها بخير الكتب، وجعلها شاهدة على الأمم كلها، وحفظ لها دينها إلى قيام الساعة، وضمن لها أنها لا تجتمع على ضلالة، وجعل الخير باقيًا فيها إلى يوم القيامة وغير ذلك من الميزات والخصائص.

1 / 1

تمهيد في بيان سبب اختيار فتاوى شيخ الإسلام المتعلقة بالعقيدة بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: فإن شاء الله تعالى سنأخذ دروسًا في مجموع الفتاوى القسم المتعلق بالعقيدة، ويشمل المجلدات الثمانية الأول لشيخ الإسلام ابن تيمية، والفتاوى لـ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قد اشتملت على بعض الرسائل أو الكتب مثل: الواسطية والحموية والتدمرية وغيرها، والقسم المتعلق بالعقيدة -كما ذكرنا- يشمل المجلدات الثمانية الأولى والتي تنتهي بموضوع القدر، ثم يلحق المجلد التاسع والعاشر والحادي عشر فيما يتعلق بالفرق وخاصة الصوفية، وما يتعلق بأصولها ومناهجها وقضاياها وطرقها ورجالها وبدعها وغير ذلك، ويسمى هذا بعلم السلوك والتصوف، وقد عده السلف من الأمور المكملة للعقائد، وهي أمور الرد وتصحيح عقائد الناس، وقد كان اختيارنا للفتاوى مبني على اعتبارات عدة، منها: الاعتبار الأول: شمول فتاوى شيخ الإسلام في المجلدات الأولى لكل مسائل العقيدة الكبرى والمهمة، بل أحيانًا حتى الفرعية. الاعتبار الثاني: أن منهج شيخ الإسلام ابن تيمية يعتبر المنهج الأنموذج الذي يجمع بين أساليب القدامى والمتأخرين في اعتماد منهج السلف في التقرير والعرض والاستدلال، بالإضافة إلى ما فيه من فائدة علمية وفوائد منهجية عظيمة جدًا يستفيد منها المعاصرون، ويستفيد منها سائر طلاب العلم في تقرير العقيدة وبيانها، حتى مع تغير الزمن في هذا الوقت، بل إننا سنرى وسنلاحظ أن شيخ الإسلام ﵀ كأنه قد كتب للناس في هذا الزمان في كثير من المسائل، وسبب ذلك تشابه أحوال عصره بأحوال عصرنا، خاصة فيما يتعلق بمناهج الناس وعقائدهم ومللهم ونحلهم، وإنما اختلفت وسائل الحياة، وهذا أمر لا دخل له في تقرير الدين. الاعتبار الثالث: أن فتاوى شيخ الإسلام فيما يتعلق بقسم العقيدة قد اشتمل على كثير من الردود المباشرة وغير المباشرة، ولم يكتف ﵀ بمجرد العرض والاستدلال والتقرير، لأنه رحمه الله تعالى عندما كتب في ذلك الوقت كان أغلب الناس من المعرضين عن عقيدة السلف، فكان في معرض تقريره للعقيدة يبين الرأي المخالف ويرد على المخالفين، فيستقصي في بحثه ويستدل وينهي المسائل حتى يصل اليقين للقارئ وطالب العلم خاصة، ثم إن شيخ الإسلام امتاز أسلوبه بجزالة الألفاظ وقوة المعاني والاستنباط.

1 / 2

خطبة شيخ الإسلام في أول الفتاوى تتضمن الحمد والثناء على الله ﷿ بما هو أهله قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه: [بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، العالم بما كان وما هو كائن وما سيكون، الذي إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، الذي يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون، وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، الذي دل على وحدانيته في إلهيته أجناس الآيات، وأبان علمه لخليقته ما فيها من إحكام المخلوقات، وأظهر قدرته على بريته ما أبدعه من أصناف المحدثات، وأرشد إلى فعله بسنته تنوع الأحوال المختلفات، وأهدى برحمته لعباده نعمه التي لا يحصيها إلا رب السماوات، وأعلم بحكمته البالغة دلائل حمده وثنائه الذي يستحقه من جميع الحالات، لا يحصي العباد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه؛ لما له من الأسماء والصفات، وهو المنعوت بنعوت الكمال وصفات الجلال التي لا يماثله فيها شيء من الموجودات، وهو القدوس السلام المتنزه أن يماثله شيء في نعوت الكمال، أو يلحقه شيء من الآفات، فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، الذي له ملك السماوات والأرض، ولم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدره تقديرًا. أرسل الرسل مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان الله عزيزًا حكيمًا، مبشرين لمن أطاعهم بغاية المراد من كل ما تحبه النفوس وتراه نعيمًا، ومنذرين لم عصاهم باللعن والإبعاد وأن يعذبوا عذابًا أليمًا، وأمرهم بدعاء الخلق إلى عبادته وحده لا شريك له، مخلصين له الدين ولو كره المشركون، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون:٥١]، ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون:٥٢]، وجعل لكل منهم شرعة ومنهاجًا؛ ليستقيموا إليه ولا يبغوا عنه اعوجاجًا. وختمهم بمحمد ﷺ أفضل الأولين والآخرين، وصفوة رب العالمين، الشاهد البشير النذير الهادي السراج المنير، الذي أخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم إلى صراط العزيز الحميد، الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وويل للكافرين من عذاب شديد، بعثه بأفضل المناهج والشرع، وأحبط به أصناف الكفر والبدع، وأنزل عليه أفضل الكتب والأنباء، وجعله مهيمنًا على ما بين يديه من كتب السماء].

1 / 3

الخصائص التي انفردت بها هذه الأمة سيذكر الشيخ رحمه الله تعالى جملة من الخصائص التي امتازت بها هذه الأمة، وهي بالاستلزام خصائص للنبي ﷺ. قال ﵀: [وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس]. الخصيصة الأولى: أن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، والخيرية هنا مطلقة، فهي خيرية الدنيا والآخرة. قال ﵀: [يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله]. الخصيصة الثانية: أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهذه الخصيصة باقية في هذه الأمة إلى قيام الساعة، وقد يكون في بعض الأمم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكن ليس كهذه الأمة؛ لأن هذه الشعيرة باقية في هذه الأمة، ما دامت هذه الطائفة المنصورة التي تكفل الله ببقائها قائمة. إذًا: تميزت هذه الأمة باستمرار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبقيامها به على الوجه الصحيح في الجملة. الخصيصة الثالثة: الإيمان بالله، لكن قد يقول قائل: إن هذه الخصيصة تشاركها فيها جميع الأمم، وهذا غير صحيح؛ لأن المقصود بالإيمان هنا الإيمان الحق الذي يتضمن الإيمان بالله وبأسمائه وبصفاته وبأفعاله، ويتضمن توحيده ﷿، والإيمان بأركان الإيمان الستة وأصوله؛ لذا فهذه الأمة هي أفضل الأمم استكمالًا لمعاني الإيمان بالله ﷿. قال ﵀: [يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله، هو شهيد عليهم وهم شهداء على الناس في الدنيا والآخرة، بما أسبغه عليهم من النعم الباطنة والظاهرة]. قوله ﵀: (يوفون سبعين) هذه ما أظنها من الخصائص، هذه إكمال عدد، إلا قوله: هم خيرها، يعني: خير السبعين أمة وأكرمها؛ فقد ورد بأنهم خير أمة. الخصيصة الرابعة: أنهم شهداء على الناس. قال ﵀: [وعصمهم أن يجتمعوا على ضلالة، إذ لم يبق بعده نبي يبين ما بدل من الرسالة]. الخصيصة الخامسة: أن الله عصمهم من أن يجتمعوا على ضلالة، وهذا من لوازم حفظ الدين، فكما أن الله قد تكفل بحفظ هذا الدين وبقاء طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرة، فإن ذلك يعني العصمة من الضلالة، والعصمة لمجموع هذه الأمة لا للأفراد، لكن قد يفهم بعض الناس كما فهم بعض أهل الأهواء أن الأمة لا تقع في ضلالة، وهذا خطأ؛ لأنه قد تكون هناك طوائف من هذه الأمة تقع في الضلالة، لكن ليس كل الأمة، بل لا بد أن تبقى طائفة على الحق ظاهرة، وهم أهل السنة والجماعة. قال ﵀: [وأكمل لهم دينهم، وأتم عليهم نعمه، ورضي لهم الإسلام دينًا، وأظهره على الدين كله إظهارًا بالنصرة والتمكين، وإظهارًا للحجة والتبيين]. الخصيصة السادسة: إكمال الدين وإتمامه، وإظهاره على الأديان كلها، وتمكين الله لهذه الأمة إلى قيام الساعة. قال ﵀: [وجعل فيهم علماءهم ورثة الأنبياء، يقومون مقامهم في تبليغ ما أنزل من الكتاب]. الخصيصة السابعة: بقاء العلماء في الأمة، بخلاف الأمم السابقة فقد اندثر فيها العلم ولم يبق فيها علماء؛ لأنها قد ابتليت بتغيير الدين والكتب المنزلة من الله ﷿، وإذا وقع التغيير لم يكن هناك علم وعلماء، ولذلك لم يبق في أي أمة من الأمم من العلماء على الدين الصحيح والاستقامة والسنة إلا علماء هذه الأمة، فهم باقون إلى قيام الساعة، وهم الذين تتمثل بهم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، لكن العلم الذي كان عند علماء اليهود والنصارى فيه شيء من التشويش، مع وجود بقية من خير، ولم يكن عندهم العلم الراسخ الذي يُعتمد عليه، ويكون بمثابة العلم الذي يحفظ به الدين نقيًا صافيًا، بل لم يوجد ذلك إلا عند علماء هذه الأمة؛ لأنهم ورثوه عن النبي ﷺ من غير تغيير ولا تبديل، وعليه فما كان من العلم عند علماء اليهود أو علماء النصارى قبل بعثة النبي ﷺ أو أثناء بعثته لا يخلو من التشويش والتغيير والتبديل، فالنصارى كانت عبادتهم وعلمهم مبنيًا على الكذب، واليهود كان عندهم شيء من الخلط والكذب والاستكبار إلا من هداهم الله فيما بعد، كـ عبد الله بن سلام ﵁، فعندما أسلم اعترف بأنه كان يفعل ما يشاء، وليس بمقتضى ما أمر الله به وبمقتضى الأمانة التي حملها الله العلماء. قال ﵀: [وطائفة منصورة لا يزالون ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى حين الحساب]. الخصيصة الثامنة: أنه تبقى في هذه الأمة طائفة منصورة، وهي أهل الحق وأهل السنة والاستقامة. قال ﵀: [وحفظ لهم الذكر الذي أنزله من الكتاب المكنون، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:٩]]. الخصيصة التاسعة: حفظ الله لكتابه العزيز. قال ﵀: [فلا يقع في كتابهم من التحريف والتبديل كما وقع من أصحاب التوراة والإنجيل]. الخصيصة العاشرة وإن كانت متفرعة عن التاسعة: امتاز الحفظ من التحريف بأنه ليس فقط حفظًا للذكر بذاته، بل حفظًا للذكر ولمعانيه الصحيحة السليمة التي بها يستقيم دين الله ﷿، وكما حفظ هذا القرآن وحفظ هذا الدين فكذلك حفظت السن

1 / 4

من مميزات هذه الأمة أن جعلت سعادتها في طاعة الرسول ﷺ قال ﵀: [وجعل هذا الميراث يحمله من كل خلف عدوله أهل العلم والدين، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ لتدوم بهم النعمة على الأمة، ويظهر بهم النور من الظلمة، ويحيا بهم دين الله الذي بعث به رسوله، وبين الله بهم للناس سبيله، فأفضل الخلق أتبعهم لهذا النبي الكريم المنعوت في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:١٢٨]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وإله المرسلين، وملك يوم الدين. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله إلى الناس أجمعين، أرسله والناس من الكفر والجهل والضلال في أقبح خيبة وأسوأ حال، فلم يزل ﷺ يجتهد في تبليغ الدين وهدى العالمين وجهاد الكفار والمنافقين، حتى طلعت شمس الإيمان، وأدبر ليل البهتان، وعز جند الرحمن، وذل حزب الشيطان، وظهر نور الفرقان، واشتهرت تلاوة القرآن، وأعلن بدعوة الأذان، واستنار بنور الله أهل البوادي والبلدان، وقامت حجة الله على الإنس والجان، لما قام المستجيب من معد بن عدنان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، صلاة يرضى بها الملك الديان، وسلم تسليمًا مقرونًا بالرضوان. أما بعد: فإنه لا سعادة للعباد، ولا نجاة في المعاد إلا باتباع رسوله: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [النساء:١٣]، ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء:١٤]، فطاعة الله ورسوله قطب السعادة التي عليه تدور، ومستقر النجاة الذي عنه لا تحور. فإن الله خلق الخلق لعبادته كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]، وإنما تعبدهم بطاعته وطاعة رسوله، فلا عبادة إلا ما هو واجب أو مستحب في دين الله، وما سوى ذلك فضلال عن سبيله. ولهذا قال ﷺ: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)، أخرجاه في الصحيحين، وقال ﷺ في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أهل السنن وصححه الترمذي: (إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة). وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره أنه كان يقول في خطبته: (خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة). وقد ذكر الله طاعة الرسول ﷺ واتباعه في نحو من أربعين موضعًا من القرآن، كقوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء:٨٠]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:٦٤ - ٦٥]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران:٣٢]، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران:٣١]، فجعل محبة العبد لربه موجبة لاتباع الرسول، وجعل متابعة الرسول سببًا لمحبة الله عبده، وقد قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ [الشورى:٥٢]، فما أوحاه الله إليه يهدي به الله من يشاء من عباده، كما أنه ﷺ بذلك هداه الله تعالى كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي﴾ [سبأ:٥٠]، وقال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ

1 / 5

من مميزات هذه الأمة بعث الله لمحمد ﷺ بالكتاب والسنة وجعلهما طريق النجاة والسعادة قال ﵀: [فحق على كل أحد بذل جهده واستطاعته في معرفة ما جاء به وطاعته؛ إذ هذا طريق النجاة من العذاب الأليم والسعادة في دار النعيم، والطريق إلى ذلك الرواية والنقل، إذ لا يكفي من ذلك مجرد العقل، بل كما أن نور العين لا يرى إلا مع ظهور نور قدامه، فكذلك نور العقل لا يهتدي إلا إذا طلعت عليه شمس الرسالة، فلهذا كان تبليغ الدين من أعظم فرائض الإسلام، وكان معرفة ما أمر الله به رسوله واجبًا على جميع الأنام. والله سبحانه بعث محمدًا ﷺ بالكتاب والسنة، وبهما أتم على أمته المنة، قال تعالى: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة:١٥٠ - ١٥٢]. وقال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [آل عمران:١٦٤]. وقال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ [البقرة:٢٣١]. وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [الجمعة:٢]. وقال تعالى عن الخليل ﵇: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة:١٢٩]. وقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ [الأحزاب:٣٤]، وقد قال غير واحد من العلماء: منهم يحيى بن أبي كثير وقتادة والشافعي وغيرهم: الحكمة هي السنة؛ لأن الله أمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من الكتاب والحكمة، والكتاب: القرآن، وما سوى ذلك مما كان الرسول ﷺ يتلوه هو السنة. وقد جاء عن النبي ﷺ من عدة أوجه من حديث أبي رافع وأبي ثعلبة وغيرهما ﵃ أنه قال: (لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: بيننا وبينكم القرآن، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه). وفي رواية: (ألا وإنه مثل الكتاب)]. في هذا الحديث إخبار عما سيقع من بعض الطوائف في هذه الأمة، وتحذير النبي ﷺ من أناس يأتون من بعده يقولون مثل هذا القول، وهذا التحذير منه ﵊ في معرض الإخبار وفي معرض التحديث في وقت واحد؛ لأننا نجد أن النبي ﷺ قد حذر من أشياء كثيرة وقعت في طوائف من هذه الأمة، ولم يبق سالمًا مما حذر منه النبي ﷺ من الأهواء إلا أهل السنة والجماعة، فقد نجد أن أكثر فرق أهل الأهواء لها نصيب مما حذر منه النبي ﷺ في هذا الحديث، فمنهم من أنكر السنة جملة وادعى أنه يكفي العمل بالقرآن، وهؤلاء طوائف من أوائل الخوارج، وكذلك المعتزلة والجهمية يردون السنة كلها أو بعضًا منها، ثم بقيت فرق أهل الكلام: الأشاعرة والماتريدية وغيرهم يأخذون من السنة ما يحلو لهم ويردون ما لا يحلو لهم، ثم إنه في الآونة الأخيرة ظهرت طوائف في كثير من بلاد المسلمين يسمون بالقرآنيين، وأصبح لهم الآن مناهج وكتب ومؤلفات وأتباع، ويكثرون في الهند وباكستان، ومنهم طوائف قليلة في مصر، فقد سموا أنفسهم أو سماهم الناس بالقرآنيين وهم ليسوا بقرآنيين، لكن هذه التسمية جاءت من باب الوصف لبعض مذهبهم؛ لأنهم زعموا أنه يكفي الناس العمل بالقرآن، وهكذا تجد مجموع الفرق أو جملتهم منهم من أنكر السنة بالكلية كالرافضة، ومنهم من أنكر أكثر السنة كبعض طوائف الخوارج، ومنهم من أنكر أيضًا كل ما يخالف أصوله وقواعده كالمعتزلة، بل من المعتزلة من أنكر السنة في الجملة وقال: لا يوثق بها! ومنهم من لم يجرؤ على إنكار السنة لكنه طعن فيها، بمعنى: أنه زعم أن السنة ظنية، وهذا مذهب الرازي وأبي المعالي الجويني قبل أن يرجع عن هذا المذهب، وهو مذهب متأخرة الأشاعرة؛ لأنهم زعموا أن ليس في السنة يقين إلا المتواتر وهو قليل، وله شروط ثقيلة وعسيرة، وأيضًا فقد يثبتونه سندًا ويردون أو يؤولون أو يشككون العمل بها، وأما خبر ال

1 / 6

تميز هذه الأمة بالإسناد والرواية عن غيرها من أهل الكتاب والأهواء والبدع قال ﵀: [ولما كان القرآن متميزًا بنفسه؛ لما خصه الله به من الإعجاز الذي باين به كلام الناس، كما قال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء:٨٨] وكان منقولًا بالتواتر، لم يطمع أحد في تغيير شيء من ألفاظه وحروفه، ولكن طمع الشيطان أن يدخل التحريف والتبديل في معانيه بالتغيير والتأويل، وطمع أن يدخل في الأحاديث من النقص والازدياد ما يضل به بعض العباد. فأقام الله تعالى الجهابذة النقاد، أهل الهدى والسداد، فدحروا حزب الشيطان، وفرقوا بين الحق والبهتان، وانتدبوا لحفظ السنة ومعاني القرآن من الزيادة في ذلك والنقصان. وقام كل من علماء الدين بما أنعم به عليه وعلى المسلمين مقام أهل الفقه، الذين فقهوا معاني القرآن والحديث، بدفع ما وقع في ذلك من الخطأ في القديم والحديث، وكان من ذلك الظاهر الجلي الذي لا يسوغ عنه العدول، ومنه الخفي الذي يسوغ فيه الاجتهاد للعلماء العدول. وقام علماء النقل والنقاد بعلم الرواية والإسناد، فسافروا في ذلك إلى البلاد، وهجروا فيه لذيذ الرقاد، وفارقوا الأموال والأولاد، وأنفقوا فيه الطارف والتلاد، وصبروا فيه على النوائب، وقنعوا من الدنيا بزاد الراكب، ولهم في ذلك من الحكايات المشهورة والقصص المأثورة ما هو عند أهله معلوم، ولمن طلب معرفته معروف مرسوم، بتوسد أحدهم التراب وتركهم لذيذ الطعام والشراب، وترك معاشرة الأهل والأصحاب، والتصبر على مرارة الاغتراب، ومقاساة الأهوال الصعاب أمر حببه الله إليهم وحلاه؛ ليحفظ بذلك دين الله، كما جعل البيت مثابة للناس وأمنًا يقصدونه من كل فج عميق، ويتحملون فيه أمورًا مؤلمة تحصل في الطريق، وكما حبب إلى أهل القتال الجهاد بالنفس والمال حكمة من الله يحفظ بها الدين؛ ليهدي المهتدين، ويظهر به الهدى ودين الحق الذي بعث به رسوله ولو كره المشركون. فمن كان مخلصًا في أعمال الدين يعملها لله، كان من أولياء الله المتقين، أهل النعيم المقيم، كما قال تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [يونس:٦٢ - ٦٤]. وقد فسر النبي ﷺ البشرى في الدنيا بنوعين: أحدهما: ثناء المثنين عليه. الثاني: (الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له، فقيل: يا رسول الله! الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه قال: تلك عاجل بشرى المؤمن). وقال البراء بن عازب ﵁ (سئل النبي ﷺ عن قوله: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [يونس:٦٤] فقال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له). والقائمون بحفظ العلم الموروث عن رسول الله ﷺ الربان، الحافظون له من الزيادة والنقصان، هم من أعظم أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين، بل لهم مزية على غيرهم من أهل الإيمان والأعمال الصالحات، كما قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:١١]، قال ابن عباس ﵄: يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات. وعلم الإسناد والرواية مما خص الله به أمة محمد ﷺ، وجعله سلمًا إلى الدراية، فأهل الكتاب لا إسناد لهم يأثرون به المنقولات، وهكذا المبتدعون من هذه الأمة أهل الضلالات، وإنما الإسناد لمن أعظم الله عليه المنة، أهل الإسلام والسنة، يفرقون به بين الصحيح والسقيم، والمعوج والقويم]. هذه سمة من سمات هذه الأمة في الجملة، أعنى: أن الله ميز هذه الأمة بالإسناد، والسنة باقية أيضًا في أهل السنة والجماعة، وعليه فالدين بل وآثار السلف تقوم على الإسناد، والمقصود بالإسناد: الإسناد الصحيح، وإلا فهناك من تعلق بالأسانيد، وخاصة بعدما اشتهر أمر الإسناد عن هذه الأمة واستقر عند أهل السنة، وعرف الصحيح من السقيم كأهل البدع والأهواء، الذين صاروا يتشبهون بأهل السنة في مسألة الاعتماد على الأسانيد التي لا أصل لها، وأحيانًا نجد أهل البدع من الصوفية والقدرية من تصدى لبدعته فجعل لها أسانيد من عنده، وهذا من باب التقليد والتشبه لا من باب الأسانيد الحقيقية، ولذا فأسانيد أهل الأهواء ليست صحيحة، ثم إنها قد تشتمل أيضًا على شيء من الخلط، أو قد تكون هناك أسانيد صحيحة ومتون فاسدة أو مكذوبة؛ لأنها أولًا لم تسند إلى النبي ﷺ، وما أسندوها إلى النبي ﷺ فقد ثبت أنها موضوعة، لذا فأغلب أس

1 / 7

الأسئلة

1 / 8

كيفية شهادة هذه الأمة على بقية الأمم الأخرى السؤال كيف تكون هذه الأمة شهيدة على بقية الأمم الأخرى؟ الجواب شهادة هذه الأمة على الأمم الأخرى من عدة وجوه: أولًا: لأنها تلقت الوحي الصادق الذي تضمن أخبار الأمم، وتضمن ما أقامه الله ﷿ على الأمم من حجة بالآيات والمنذرات، والشرائع التي أنزلها الله ﷿، فهذه الأمور جاءت في القرآن والسنة، فبقيت من المعلوم عند جميع هذه الأمة أو عند طوائف هذه الأمة على الأمم الأخرى، وسيشهدون على ذلك في الدنيا والآخرة. وقد أقامت هذه الأمة الإسلامية بمجموعها الحجة على خلقه في هذه الدنيا على الأمم، ولا تزال تقيم الحجة، ولا نزال نرى في المسلمين مظاهر إقامة الحجة على الأمم الأخرى، فهذه الحجة تقتضي ضرورة الشهادة؛ لأنهم بلغوا كلام الله وبلغوا ما أمر الله به من إبلاغ الأمم، وأخبروهم بمقتضيات الرسالة المحمدية التي جاء بها النبي ﷺ، فمنهم من أعرض ومنهم من أطاع، فمن أعرض قامت عليه الشهادة، وهذه الشهادة نفسها تبقى أصولها حتى يوم القيامة، فعندما تقول الأمم: لم يأتنا رسل ونذر، تشهد هذه الأمة بأن الله قد بعث الرسل والنذر، وأن آيات الرسل والنذر من كلام الله ﷿ ومن آياته المشهودة والمنظورة قائمة؛ ولذا فالأمة الإسلامية تشهد على الأمم الأخرى بحجة الله ﷿ على خلقه، حتى بالآثار القائمة والقصص التاريخية المتواترة، وبالأحوال والكرامات التي يهيئها الله ﷿ لهذه الأمة على الأمم الأخرى. فإذًا: الشهادة تكون من مجموعة أمور أعظمها الشهادة بمقتضيات ما جاء في القرآن المحفوظ وما جاء بالسنة المحفوظة.

1 / 9

دخول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحت الإرادة الشرعية والكونية السؤال قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [آل عمران:١١٠] فهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدر كتبه الله جل وعلا أو شرع تطالب به الأمة قد تفعله وقد لا تفعله؟ الجواب الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه من الشرع، لكن ما يمتثله الناس من أوامر الله ﷿ وأوامره الشرعية يدخل في إرادته الكونية، بمعنى: أن ما يعمله وما يمتثله العباد من أوامر الله الشرعية يكون مما شاءه الله وقدره كونًا، فبين الأمرين تلازم، لكن الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه داخل في إرادة الله الشرعية، وكونه ﷿ قد وعد هذه الأمة وحقق لها أن تكون آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر كان هذا لسابق علمه أنها ستعمل وتنهى، وأيضًا لأن الله قد قدر ذلك، فاجتمع في هذا الأمر الشرعي والأمر الكوني، لكنه أقرب إلى الأمر الشرعي أو الإرادة الشرعية.

1 / 10

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [٢] الجماعة مطلب عظيم من مطالب الدين، وأصل كبير من أصول الإسلام، ولا يكون الاجتماع إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة، ونبذ الفرقة والاختلاف؛ لأن من خالف الجماعة في الاعتقاد خاصة فقد خرج عن السنة، ومن فارق الجماعة في العمل فقد شذ، ومن شذ شذ في النار، فينبغي على المسلم الإخلاص لله تعالى، ولزوم جماعة المسلمين، والنصيحة لهم.

2 / 1

قاعدة في الجماعة والفرقة وسبب ذلك ونتيجته الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد تناولنا في الدرس الماضي في فتاوى شيخ الإسلام الموضوع الأول وهو متعلق بمصادر الدين، وكأن الشيخ ﵀ راعى -كما ذكرت سابقًا- أن يبدأ بما يتعلق بمصادر الدين، يعني: ما أول ما ينبغي أن يقرر فيما يتعلق بأصول الدين؟ ثم بعد ذلك انتقل إلى الموضوع الثاني أو الرسالة الثانية في الجماعة والفرقة، وهو الموضوع الذي سنتناوله الآن، وقد كان الكثير من مصنفي العقائد والسنن من السلف ﵏ يبدءون عقائدهم غالبًا بموضوع الاعتصام بالكتاب والسنة والنهي عن الفرقة، وهذا مدخل جيد في التأصيل؛ ليتبين للقارئ أن الجماعة مطلب عظيم من مطالب الدين، وأصل كبير من أصول الإسلام، وأن الاعتصام بالكتاب والسنة يعني الحفاظ على الجماعة وعدم الفرقة، وأنه لا يستقر للناس عقيدة ولا دين إلا بالجماعة، فمن فارق الجماعة في الاعتقاد فقد خرج عن السنة، ومن فارق الجماعة في العمل فقد شذ، والشذوذ هلكة، وصاحب الشذوذ إلى النار، نسأل الله العافية. ومن هنا كان من المناسب بعد الكلام عن مصادر الدين أن يذكر الشيخ الرسالة المتعلقة بالجماعة والنهي عن الفرقة.

2 / 2

الوصية بالجماعة لإقامة الدين والنهي عن التفرقة في الدين قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [قاعدة في الجماعة والفرقة، وسبب ذلك ونتيجته. قال الله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى:١٣]. أخبر سبحانه أنه شرع لنا ما وصى به نوحًا والذي أوحاه إلى محمد، وما وصى به الثلاثة المذكورين، وهؤلاء هم أولوا العزم المأخوذ عليهم الميثاق في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ [الأحزاب:٧]، وقوله: ﴿مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ﴾ [الشورى:١٣]، فجاء في حق محمد باسم: (الذي)، وبلفظ (الإيحاء)، وفى سائر الرسل بلفظ: (الوصية). ثم قال: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾. وهذا تفسير الوصية و(أن): المفسرة التي تأتي بعد فعل من معنى القول لا من لفظه، كما في قوله: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ﴾ [النحل:١٢٣]، ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء:١٣١]، والمعنى: قلنا لهم: اتقوا الله، فكذلك قوله: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ [الشورى:١٣] في معنى: قال لكم من الدين ما وصى به رسلًا، قلنا: أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، فالمشروع لنا هو الموصى به والموحى، وهو: ﴿أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ [الشورى:١٣]، فأقيموا الدين مفسر للمشروع لنا، الموصى به الرسل، والموحى إلى محمد ﷺ، فقد يقال: الضمير في (أقيموا) عائد إلينا، ويقال: هو عائد إلى المرسل، ويقال: هو عائد إلى الجميع، وهذا أحسن، ونظيره: أمرتك بما أمرت به زيدًا أن أطع الله، ووصيتكم بما وصيت بني فلان أن افعلوا، فعلى الأول: يكون بدلًا من (ما) أي: شرع لكم (أن أقيموا) وعلى الثاني: شرع (ما) خاطبهم، (أقيموا) فهو بدل أيضًا، وذكر ما قيل للأولين، وعلى الثالث: شرع الموصى به (أقيموا). فلما خاطب بهذه الجماعة بعد الإخبار بأنها مقولة لنا، ومقولة لهم، علم أن الضمير عائد إلى الطائفتين جميعًا، وهذا أصح إن شاء الله]. يعني: إلى الرسل والمرسل إليهم. قال ﵀: [والمعنى على التقديرين الأولين يرجع إلى هذا، فإن الذي شرع لنا هو الذي وصى به الرسل، وهو الأمر بإقامة الدين، والنهي عن التفرق فيه، ولكن التردد في أن الضمير تناولهم لفظه، وقد علم أنه قيل لنا مثله، أو بالعكس، أو تناولنا جميعًا. وإذا كان الله قد أمر الأولين والآخرين بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، وقد أخبر أنه شرع لنا ما وصى به نوحًا، والذي أوحاه إلى محمد، فيحتمل شيئين: أحدهما: أن يكون ما أوحاه إلى محمد يدخل فيه شريعته التي تختص بنا، فإن جميع ما بعث به محمد ﷺ قد أوحاه إليه من الأصول والفروع، بخلاف نوح وغيره من الرسل، فإنما شرع لنا من الدين ما وصوا به من إقامة الدين، وترك التفرق فيه، والدين الذي اتفقوا عليه هو الأصول، فتضمن الكلام أشياء: أحدها: أنه شرع لنا الدين المشترك وهو الإسلام والإيمان العام، والدين المختص بنا وهو الإسلام والإيمان الخاص. الثاني: أنه أمرنا بإقامة هذا الدين كله المشترك والمختص، ونهانا عن التفرق فيه الثالث: أنه أمر المرسلين بإقامة الدين المشترك، ونهاهم عن التفرق فيه. الرابع: أنه لما فصل بقوله: ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [الشورى:١٣] بين قوله: ﴿مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾ [الشورى:١٣]، وقوله: ﴿وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾ [الشورى:١٣] أفاد ذلك. قال بعد ذلك: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران:١٩]، فأخبر أن تفرقهم إنما كان بعد مجيء العلم الذي بين لهم ما يتقون، فإن الله ما كان ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون. وأخبر أنهم ما تفرقوا إلا بغيًا، والبغي مجاوزة الحد، كما قال ابن عمر ﵄: الكبر والحسد؛ وهذا بخلاف التفرق عن اجتهاد ليس فيه علم، ولا قصد به البغي، كتنازع العلماء السائغ، والبغي إما تضييع للحق، وإما تعد للحد، فهو إما ترك واجب، وإما فعل محرم، فعلم أن موجب التفرق هو ذلك]. هنا أحب أن أنبه على أن وجه الاستشهاد في مسألة الجماعة وعدم الفرقة، وإن كان واضحًا، لكن التأكيد عليه يبين سبب اختيار هذا المقطع في قاعدة الجماعة والفرقة: قوله تعالى: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ [الشورى:١٣]، فتضمن بالضرورة أن هذا الدين لا يقام إلا با

2 / 3

بيان كون ترك العمل بما أمر الله به سببًا لإغراء العداوة والبغضاء بين الناس قال ﵀: [وهذا كما قال عن أهل الكتاب: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [المائدة:١٤]، فأخبر أن نسيانهم حظًا مما ذكروا به، وهو ترك العمل ببعض ما أمروا به، كان سببًا لإغراء العداوة والبغضاء بينهم، وهكذا هو الواقع في أهل ملتنا، مثلما نجده بين الطوائف المتنازعة في أصول دينها، وكثير من فروعه، من أهل الأصول والفروع، ومثلما نجده بين العلماء وبين العباد، ممن يغلب عليه الموسوية أو العيسوية]. ليس المقصود بالموسوية ملة موسى ﵇، وإنما المقصود أتباع موسى ﵇ من اليهود الذين ابتدعوا مع العلم، بينما العيسوية تعني: الابتداع مع المجاهرة، إذًا فالموسوية رمز لمن ابتدع في الدين من العلماء مع العلم والبصيرة، وهذا إما كبرًا وإما هوى وإما حسدًا، والعيسوية: هم النصارى الذين عبدوا الله على جهل، وهذا فيه إشارة إلى العباد، أعني: عباد هذه الأمة الذين ظهرت عندهم نزعات البدع والأهواء لجهلهم في الدين، حتى صارت هذه النزعات بذور الصوفية فيما بعد، وأصبحت الآن طرقًا ابتليت بها الأمة، بل ودخل فيها فئام من الأمة أو من المسلمين، ربما يكونون في كثير من البلاد الإسلامية هم الأكثر، وأغلب هؤلاء على دين العيسوية. قال ﵀: [حتى يبقى فيهم شبه من الأمتين اللتين قالت كل واحدة: ليست الأخرى على شيء، كما نجد المتفقه المتمسك من الدين بالأعمال الظاهرة، والمتصوف المتمسك منه بأعمال باطنة، كل منهم ينفي طريقة الآخر، ويدعي أنه ليس من أهل الدين، أو يعرض عنه إعراض من لا يعده من الدين، فتقع بينهما العداوة والبغضاء.

2 / 4

أمر الله بطهارة القلوب والأبدان وذلك أن الله أمر بطهارة القلب، وأمر بطهارة البدن]. قوله: (أن الله أمر بطهارة القلب) إشارة إلى أعمال القلوب من المحبة لله ﷿ والخشية، ورجاء الثواب منه واليقين ونحو ذلك من الأعمال القلبية. وقوله: (وأمر بطهارة البدن) تشمل الطهارة الحسية التي هي التنزه والتطهر بالماء، وتطهير الثياب والظهور بالمظهر اللائق في العبادة كما أمر الله ﷿، كما أنها أيضًا تشمل طهارة الأعمال، أعني: كون الأعمال تكون صادقة ومبنية على البر والتقوى، وهذا من علامات الطهارة الظاهرة. قال ﵀: [وكلا الطهارتين من الدين الذي أمر الله به وأوجبه، قال تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة:٦]. وقال: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة:١٠٨]. وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة:٢٢٢]. وقال: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة:١٠٣]. وقال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ [المائدة:٤١]. وقال: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة:٢٨]. وقال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب:٣٣]. فنجد كثيرًا من المتفقهة والمتعبدة إنما همته طهارة البدن فقط، ويزيد فيها على المشروع اهتمامًا وعملًا، ويترك من طهارة القلب ما أمر به إيجابًا أو استحبابًا ولا يفهم من الطهارة إلا ذلك، ونجد كثيرًا من المتصوفة والمتفقرة إنما همته طهارة القلب فقط حتى يزيد فيها على المشروع اهتمامًا وعملًا، ويترك من طهارة البدن ما أمر به إيجابًا أو استحبابًا. فالأولون يخرجون إلى الوسوسة المذمومة في كثرة صب الماء، وتنجيس ما ليس بنجس، واجتناب ما لا يشرع اجتنابه، مع اشتمال قلوبهم على أنواع من الحسد والكبر، والغل لإخوانهم، وفي ذلك مشابهة بينة لليهود. والآخرون يخرجون إلى الغفلة المذمومة، فيبالغون في سلامة الباطن حتى يجعلون الجهل بما تجب معرفته من الشر الذي يجب اتقاؤه من سلامة الباطن، ولا يفرقون بين سلامة الباطن من إرادة الشر المنهي عنه، وبين سلامة القلب من معرفة الشر المعرفة المأمور بها، ثم مع هذا الجهل والغفلة قد لا يجتنبون النجاسات، ويقيمون الطهارة الواجبة مضاهاة للنصارى].

2 / 5

سبب وقوع العداوة بين طوائف أهل الكتاب ومن اقتدى بهم قال رحمه الله تعالى: [وتقع العداوة بين الطائفتين بسبب ترك حظ مما ذكروا به، والبغي الذي هو مجاوزة الحد، إما تفريطًا وتضييعًا للحق، وإما عدوانًا وفعلًا للظلم، والبغي تارة يكون من بعضهم على بعض، وتارة يكون في حقوق الله، وهما متلازمان ولهذا قال: ﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [البقرة:٢١٣]، فإن كل طائفة بغت على الأخرى، فلم تعرف حقها الذي بأيديها، ولم تكف عن العدوان عليها. وقال تعالى: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ [البينة:٤]. وقال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [البقرة:٢١٣]. وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ [الجاثية:١٦]. وقال تعالى في موسى بن عمران مثل ذلك. وقال: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ [آل عمران:١٠٥]. وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام:١٥٩]. وقال: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم:٣٠ - ٣٢]؛ لأن المشركين كل منهم يعبد إلهًا يهواه، كما قال في الآية الأولى: ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ [الشورى:١٣]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون:٥١ - ٥٣].

2 / 6

سبب الاجتماع والفرقة ونتيجتهما قال رحمه الله تعالى: [فظهر أن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين، والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما أمر به باطنًا وظاهرًا. وسبب الفرقة ترك حظ مما أمر العبد به والبغي بينهم. ونتيجة الجماعة رحمة الله ورضوانه وصلواته وسعادة الدنيا والآخرة وبياض الوجوه. ونتيجة الفرقة عذاب الله ولعنته وسواد الوجوه وبراءة الرسول ﷺ منهم. وهذا أحد الأدلة على أن الإجماع حجة قاطعة، فإنهم إذا اجتمعوا كانوا مطيعين لله بذلك مرحومين، فلا تكون طاعة لله ورحمته بفعل لم يأمر الله به، من اعتقاد أو قول أو عمل، فلو كان القول أو العمل الذي اجتمعوا عليه لم يأمر الله به، لم يكن ذلك طاعة لله ولا سببًا لرحمته، وقد احتج بذلك أبو بكر عبد العزيز في أول (التنبيه) نبه على هذه النكتة]. يظهر لي أن هذا من كلام الخلال المشهور بغلام الخلال، وقد توفي سنة (٣٦٣هـ)، وهو من أئمة السنة ومن علماء الحنابلة، وله مواقف مشهودة ضد البدع وأهلها، كما أنه من مؤصلة المذهب الحنبلي من حيث التأصيل العقدي والتأصيل الفقهي.

2 / 7

فصل في حديث: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم) قال رحمه الله تعالى: [فصل: قال ﷺ فى الحديث المشهور في السنن من رواية فقيهي الصحابة عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت ﵄: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)، وفى حديث أبي هريرة المحفوظ: (إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم)]. هذه الأمور من قواعد الدين العظمى التي قد تساهل فيها كثير من الناس، أو تساهلوا في تقريرها وفي العمل بها وربما في اعتقادها؛ لذا فإن كثيرًا من الناس يجهل هذه المعاني، ويظنها من السنة أو من فروع الدين أو أنها من مناهج السلف التي قد لا تصلح لكل زمان إلى آخر ذلك من الظنون التي تخالف أصول الحق؛ وهذه القواعد مما أمر الله بها جميع المرسلين والأمم، ولا يمكن أن يستقيم للأمة دين، وأن تكون لها قوة، وأن تسلم من الأهواء والفرقة إلا بهذه الأصول الثلاثة: الإخلاص، والمناصحة لولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين. قال ﵀: [فقد جمع في هذه الأحاديث بين الخصال الثلاث: إخلاص العمل لله، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، وهذه الثلاث تجمع أصول الدين وقواعده، وتجمع الحقوق التي لله ولعباده، وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة. وبيان ذلك أن الحقوق قسمان: حق لله، وحق لعباده، فحق الله أن نعبده ولا نشرك به شيئًا كما جاء لفظه في أحد الحديثين، وهذا معنى إخلاص العمل لله كما جاء في الحديث الآخر. وحقوق العباد قسمان: خاص وعام، أما الخاص فمثل: بر كل إنسان والديه، وحق زوجته وجاره، فهذه من فروع الدين؛ لأن المكلف قد يخلو عن وجوبها عليه، ولأن مصلحتها خاصة فردية. وأما الحقوق العامة فالناس نوعان: رعاة ورعية، فحقوق الرعاة مناصحتهم، وحقوق الرعية لزوم جماعتهم، فإن مصلحتهم لا تتم إلا باجتماعهم، وهم لا يجتمعون على ضلالة، بل مصلحة دينهم ودنياهم في اجتماعهم واعتصامهم بحبل الله جميعًا، فهذه الخصال تجمع أصول الدين. وقد جاءت مفسرة في الحديث الذي رواه مسلم عن تميم الداري ﵁ قال: قال رسول الله: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم). فالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله تدخل في حق الله وعبادته وحده لا شريك له، والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم هي مناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعتهم، فإن لزوم جماعتهم هي نصيحتهم العامة، وأما النصيحة الخاصة لكل واحد واحد منهم بعينه، فهذه يمكن بعضها ويتعذر استيعابها على سبيل التعيين]. والمناصحة لعامة المسلمين تعني أن يحرص المسلم على أن ينشر الخير بينهم، وألا يكون ساعيًا إلى إشاعة الذل بينهم، بل يحرص أو يهتم بما يصلح أحوال المسلمين بقدر ما يستطيعه؛ لأن من الصعب كما يقول الشيخ ﵀: أن يقوم بواجب النصيحة لكل فرد مسلم، لكن مقتضى النصيحة ما يمكن أن يصل نفعه لكل فرد وأنت جالس كالدعاء لعموم المسلمين، وكالاهتمام بشئونهم بالنصح لهم نصحًا عامًا يصل إلى أفرادهم ولو لم تعلمهم أو تدركهم، فقد تنفع المسلم في أقصى الدنيا بكلمة طيبة أو برسالة أو بكتاب تبعثه أو بشريط أو بدعاء، أو بنفع عام من المنافع العامة التي ربما تكون الوسائل متاحة لها الآن أكثر من أي زمن مضى، كان من الصعوبة في الماضي أن يستطيع المسلم أن ينفع مسلمًا بينه وبينه الصحاري البعيدة والبحار والقفار، لكن الآن بحمد الله يستطيع كل مسلم أن ينفع عموم المسلمين بشتى الوسائل، وكما قلت: ولو لم يكن من ذلك إلا الدعاء لكان في ذلك خير كثير، مع أن فرص أعمال البر الكثيرة أتيحت الآن جدًا، فمن هنا يستطيع المسلم أن يحقق معنى النصيحة لعامة المسلمين والاهتمام بشئونهم وبرعاية مصالحهم، وبأعمال البر ولا يحتقر منها شيئًا. ونسأل الله للجميع التوفيق والسداد.

2 / 8

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [٣] إذا علم العبد أنه غير عالم بمصلحته، ولا قادر عليها، ولا مريد لها كما ينبغي، فإنه يتوجب عليه أن يسعى إلى إخلاص العمل لله، وعدم الشرك به، وأن يعلم أنه لا حول له ولا قوة إلا به سبحانه، فيستعين به ويتوكل عليه، ويسأله من فضله العظيم، ويلجأ إليه في كل أموره لا إلى خلقه.

3 / 1

قاعدة في توحيد الإلهية وإخلاص العمل والوجه له الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن شاء الله سيتكلم شيخ الإسلام ﵀ في هذا المقطع عن حقيقة الألوهية، ويذكر قواعد هامة في الألوهية، وهو ﵀ قد تكلم أولًا في حقيقة الألوهية وعلاقتها بالربوبية، وأيضًا ذكر بعض أنواع الألوهية، ثم قعد قواعد جيدة في حقيقة الألوهية سيذكرها مفصّلة بعد ذلك.

3 / 2